7 سبتمبر 2009

الحقوق بين الحفظ والضياع: نظرة في إشكالية تقنين الأحكام القضائية




الحقوق بين الحفظ والضياع: نظرة في إشكالية تقنين الأحكام القضائية.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء وخير المرسلين، وعلى آله الطاهرين وصحبه أجمعين. وبعد: فإن هذا الدين الخاتم لما كان صالحاً لكل زمان ومكان اعتمدت تشريعاته المختلفة وأحكامه التفصيلية ونشأت على أساس من المقاصد الأساسية والمصالح العليا التي تشمل الحقوق والضرورات الإنسانية التي اتفقت عليها جميع الرسالات السماوية واجتمعت البشرية، مؤمنها وكافرها، على أهميتها وأهمية حفظها لكل إنسان.

ومن أهم الضرورات التي سعت الشريعة إلى حفظها وفرضها هي وجود نظام يتحاكم إليه الناس يؤمّن لهم العدل والمساواة تحت مظلته ويحفظ لهم حقوقهم ويحاسبهم على أساس واضح المعالم يكون في مقدرة الجميع الإطلاع عليه والعلم به.

أثير قبل عدة سنوات موضوع حساس عنون بـ(تقنين الشريعة) وبعيداً عن الخوض في المصطلح وصحة تسميته كان لب هذه القضية هي ضبط الأحكام القضائية في مدونات واعتمادها لتكون مرجعا للقضاة في أحكامهم لا يتجاوزونها مثل ما هو معمول به في جميع دول العالم!!

أغضبت هذه القضية التيار الإسلامي المحافظ وشرعوا بالرد عليها وصدرت في ذلك كتابات مختلفة تراوحت في جديتها وعمقها ما بين من اعتمد في رده على خطأ المصطلح!! إلى محاولة الاستعانة بالتراث الفقهي وتنزيل صوره المختلفة على هذه القضية الحديثة! اطلعت في تلك الفترة على عدد من هذه الكتابات والبحوث وعجبت من عمومها وعدم تصور المسألة بشكلها الدقيق والحكم عليها من خلال ما يخشى أن يكون من أثارها!! حتى اطلعت مؤخراً على رسالة للباحث/ عبدالعزيز بن فيصل الراجحي يرد فيها على الشيخ/ عبدالمحسن العبيكان في هذه المسألة. وكنت قد التقيت بالأستاذ/ عبدالعزيز منذ زمن بعيد فوجدت فيها الشاب الباحث وطالب العلم المجتهد مع انتمائه إلى المدرسة السلفية التقليدية والانتصار لها. ومع محاولة الأستاذ/ عبدالعزيز في رسالته الرد على الشيخ/ العبيكان إلا أنه لم يوفق في ذلك في رأيي الشخصي.

وإن كنت لا أزعم أني محررٌ لما لم تأتي به الأوائل في هذه القضية، إلا أنني وددت أن أشارك برأيي المتواضع فيها من خلال النقاط التالية:

1. أظن أن من أبرز الإشكاليات بين الفريقين، المانع والمؤيد لتقنين الأحكام القضائية،تأتي من تصور المسألة. ففي وقت يتحدث فيه الداعون إلى التقنين عن الأحكام القضائية يجيب المانعون عن الأحكام الفقيهة! ويبررون موقفهم بالدفاع عن باب الاجتهاد الفقهي الذي يجب أن لا يغلق ويستدلون على ذلك بمختلف الأدلة الشرعية!! وأنا أنبه الأخوة الكرام المخالفين في هذه المسألة أننا لا ندعوا إلى المنع من الاجتهاد في الإفتاء وتبين الحكم الشرعي الراجح لدى كل مذهب في أبواب الفقه المختلفة، بل نحن نطالب إلى ضبط الأنظمة والقوانين التي تنظم للناس حياتهم كنظام الجمارك والإعلام والجنسية والمرور وغير ذلك من القوانين في مختلف مجالاته كالتجارية والبحرية والجوية والجنائية والأحوال الشخصية، والتي قد يدخل في بعضها معيار الحلال والحرام، وإن كانت في غالبها لا يشملها هذا المعيار؛ فأين هو باب الاجتهاد الفقهي الذي يخشون أن يغلق!! والقضاء ليس محلا للاجتهاد الفقهي الذي قد يتحول عنه صاحبه في أي وقت، ومعلوم مدى الاضطراب الناتج عن مثل هذا والظلم المترتب عليه؛ فلو حكم قاضٍ لزوجة على زوجها في مسألة من مسائل النفقة وتغير اجتهاده الفقهي بعد ذلك فحكم في نفس المسألة في قضية أخرى للزوج على الزوجة!!

2. ولا شك أن من مميزات الفقه الإسلامي وجود الاجتهاد فيه والذي يراعي فيه تغير الأحوال والأزمنة والأماكن وتأثيراتها الجلية في الحكم، والأخوة المعارضين لتقنين الأحكام القضائية يظنون أن هذه الميزة ستنعدم في الأحكام المقننة! وهذا دليل على عدم تصور كاف للقوانين التي تتيح للقاضي الاجتهاد ضمن نطاق يكفل العدل والمساواة للجميع ويقلص الغبن في اختلاف الأحكام القضائية إلى أضيق حدودها. علماً أن وضع القانون هو عبارة عن عملية اجتهاد جماعية منظمة يتم تغيرها فيما بعد بتغير الاجتهاد الجماعي للمصلحة وتغير الظروف، فمثلاً لو كان الاجتهاد الحالي يجرم قيادة المرأة للسيارة فقد يأتي اجتهاد مستقبلي يحفظ للمرأة حقها في قيادة السيارة، وهذا كله يتم من خلال المؤسسات القضائية والدستورية وليس من خلال أحاد القضاة وأفرادهم.

3. قد بحث العلماء في تصوير منزلة القضاة من السلطان: هل هم ولاة مستقلون أم نواب يتبعون له؟! وليس هنا محل بحث هذه المسألة إلا أن كثير من العلماء أثبتوا حق السلطان في أن يأمر القضاة بالحكم في قضية ما بحكم معين، كما لو أمرهم بتعزير مهرب المخدرات بالقتل كعقوبة قصوى في وقت أن مهرب المسكرات لا تصل عقوبته القصوى إلى القتل مع الأخذ بعين الاعتبار أن كليهما مفسد في الأرض. ومما يبحث في أثار هذا التصوير ما لو رفع حكم القاضي إلى ولي الأمر فهل له أن ينقضه أو يعدله؟! وفي تحرير هذه المسألة إضافة مهمة للبحث في هذه المسألة.

ولعل يأتي في تعليق الأخوة ما يضيف إلى هذا الموضوع ما يثريه.

والحمد لله رب العالمين..