2 أكتوبر 2012

الرد على المعترض على حديث (خلق الله آدم على صورته)

       الرد على المعترض على حديث (خلق الله آدم على صورته)



     الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء وخير المرسلين، وعلى آله الطاهرين وصحبه أجمعين، وبعد:

     فيروى أن رجلا أراد الشهرة فقدم مكة في موسم الحج وحسر عن عورته أمام الناس وبال في بئر زمزم! وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (من لبس ثوبَ شهرةٍ في الدنيا ألبَسَهُ اللهُ ثوبَ مَذَلَّةٍ يومَ القيامةِ) رواه أحمد في مسنده من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، ومن نكد زماننا تسارع بعض الناس إلى الشهرة والتهافت عليها كتهافت الفراش في النار؛ فسلكوا في ذلك كل مسلك محرم ولم يبالوا، ومن أسوأها الافتيات على الشريعة الغراء والتعدي على كتاب الله سبحانه وتعالي وعلى سنة من لا ينطق عن الهوى صلوات ربي وسلامه عليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
      شغب المدعو عدنان إبراهيم، أحد المشتهرين هذه الأيام بالتعدي على أحاديث الحبيب عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، على حديثٍ رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على هؤلاء النفر، نفر من الملائكة جلوس، واسمع ما يجيبوك؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك، قال: فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: عليك السلام ورحمة الله، قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم عليه السلام وطوله ستون ذراعا، فلم يزل الخلق ينتقص بعد حتى الآن)، وطعن في الحديث من عدة أوجهٍ أشير إليها وأجاوب عنها بما يعين الله به ويوفق، فأقول:
-               من أول ما طعن به المتطاول على سنة الحبيب عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أنه من رواية همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأن هماما كان يهوديا فأسلم، وأن هذا الحديث من دسيس الإسرائليات! فهو يُعرّض بأن هماما قد كذب هذا الحديث على رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه ليوافق ما في توراة اليهود، وأقول: ستلتقي وهماما بين يدي الله يوم لا ينفع مال ولا بنون فيقتص الله للمظلوم من الظالم، وقد خاب من حمل ظلما! فهمام بن منبه تابعي ثقة روى عنه علماء الإسلام وقبلوا حديثه وذكروه في الثقات، وهو من القرون الثلاثة المفضلة كما قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) رواه البخاري. وطعنُ المتطاول في همام بن منبه هو تبع لطعنه في صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم أجمعين، وما أراه إلا أعد العدة ليطعن صراحة في أبي هريرة رضي الله عنه - وقد سبق له استنقاصه والتعريض به وأنه ما كان يأتي النبيَّ عليه الصلاة والسلام إلا ليأكل لا للعلم، وأنه يروي عددا من الأحاديث لا يعقل أنه سمعها من النبي!- وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبب عُبيدك هذا- يعني أبا هريرة- وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين) فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني! فوالله ثم والله ثم والله ثلاث لا أحنث فيها أن من لا يحب أبا هريرة ليس بمؤمن، وهل يطعن المحب فيمن يحب؟! لا والله. وقد روى مسلم وأحمد وابن حبان والبيهقي وابن راهويه وابن خزيمة وابن أبي عاصم وغيرهم حديثَ الصورة من عدة طرق صحيحة ثابتة عن أبي هريرة غير طريق همام بن منبه، والطعن في جميع رواة الحديث الثقات بطرقه المختلفة يستحيل لأنه جنون وسفه وإن كان المتطاول ليس بعيدا عنه! وحينها نعلم يقينا أن الطعن في همام هو كبيرة وظلم تجب التوبة منه، وإن أصر الطاعن أن هذا الحديث من "دسيس الإسرائليات" فليس له إلا أن يتهم أبا هريرة أنه  هو من كذب هذا الحديث! وحاشى أبا هريرة أن يكذب على رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه؛ فهل علمت أيها القارئ الكريم من هو الكذّاب الأشر هنا؟! ولتعلم يقينا من هو الكذاب الأشر أقولُ وأكملُ:

-               ثم طعن المتطاول في أول الحديث (خلق الله آدم على صورته) وأن الشبهة حول كذب همام بن منبه لهذا الحديث قائمة وأنه أراد (صورة الرحمن) كما صرح في بعض طرق حديث أبي مسعود الأنصاري عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تضربه، فإن الله خلق آدم على صورته!)، ولا أخفيكم أنني أول مرة أسمع بحديث أبي مسعود الأنصاري هذا، والمشهور عنه رضي الله عنه هو حديث (اعلم أبا مسعود) وليس فيه (لا تضربه، فإن الله خلق آدم على صورته) ولا قريب منه، لكن اتهمت نفسي بالتقصير في مطالعة كتب السنة، وكنت حينها لا أزال أظن أن في المتطاول بقية خير أو علم ترده عن كذب الأحاديث؛ فبحثتُ عن حديث أبي مسعود هذا في عشرات المسانيد وكتب الصحاح والضعاف بل وحتى الموضوعات فلم أجد حديثا لأبي مسعود الأنصاري فيه (لا تضربه، فإن الله خلق آدم على صورته)! والمصيبة أن المتطاول يذكر أن للحديث عدة طرق صرح همام بن منبه، أو أبو مسعود الأنصاري، في بعضها أن الله خلق آدم على (صورة الرحمن)! فانظر كيف يفضح اللهُ كذبَ من يتهم حفظة السنة بالكذب في نفس المقام والدقيقة! وسيأتي مزيد بيان لتعالم وجهل المتطاول على سنة الحبيب عليه الصلاة والسلام وعلى رواتها الثقات من أئمة الدين في نقاط قادمة، إلا أنه يليق بحال المتطاول أن أورد للقراء الكرام حديثا صحيحا رواه البخاري بسنده عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)!

-               اختلف العلماء في تحديد على من يعود الضمير في قوله (خلق الله آدم على صورته) على ثلاث أقوال:
أ/ أنه عائد على الخالق سبحانه وتعالى، أي على صورة الله.
ب/ أن الضمير عائد على آدم، أي أن الله خلق آدم على صورة واحدة لم تتغير.
ج/ أن الضمير عائد على صورة المضروب، أي أن الله خلق آدم على صورة المضروب فلا تضربه على وجه خُلق آدمُ على صورته.
     وقد قال بهذه الأقوال الثلاث علماء أهل السنة، علما أن الأشعرية رفضوا القول الأول لمسلكهم في نفي وتأويل الصفات التي أثبتها الله عز وجل لنفسه وأثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام. وإثبات الصورة لله تعالى ثابت في الأدلة الشرعية كثبوت صفات السمع والبصر واليد وغيرها من الصفات التي يثبتها أهل السنة ولا ينفونها ولا يحرفون معانيها وينزهون الله سبحانه وتعالى أن يشابه خلقه أو يماثلهم، فمعاني الصفات معلومة مفهومة أما الكيفية فلا يعلم كنهها إلا هو سبحانه كما نص على ذلك أئمة الإسلام وشيوخه من العلماء، ومن ينفي الصفات، كهذا المتطاول، وقعوا فيما رموا أهل السنة به من التشبيه حاشاهم، فهؤلاء النفاة أثبتوا المشابهة بين صفات الخالق والمخلوق وصوروها في أذهانهم أولا ثم نفوها تنزيها لله زعموا! لذا تجدهم دوما والعياذ بالله إذا تكلموا عن صفات الله أشاروا بكلامهم وحركاتهم إلى صفات الإنسان المخلوق الجسدية كما فعل هذا المتطاول. أما أهل السنة فلا يقع التشبيه في أذهانهم لإيمانهم بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) فهم يحترمون كل الأدلة ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ويثبتون ما أثبته الله لنفسه دون أن يطرأ على أذهانه أي تشبيه لله بخلقه. ففرق بين اختلاف علماء السنة في تحديد الضمير في (صورته) لما يترجح لهم في المعنى وشواهد الأدلة الشرعية الأخرى، وبين اختلاف الأشاعرة لتأويل الصفة، وإن كان في الأشاعرة علماء مجتهدون أخطأوا في اجتهادهم إلا أن هذا المتطاول أخذ عنهم ما أخطأوا فيه من نفي الصفات وزاد عليه من قبيح صفات الرافضة في الطعن بالصحابة وسيء صفات المعتزلة في تحكيم العقل القاصر على الأدلة الشرعية وصفات بشعة أخرى تفتقت عنها سريرته.

-               الراجح أن الضمير في حديث (خلق الله آدم على صورته) أنه عائد على الله، وهذا هو اختيار أئمة أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين، وأن هذه الإضافة لله على معنيين:
الأول: إضافة تكريم وتشريف كبيت الله وناقة الله.
الثاني: أن الصورة بمعنى الصفة، وهو معلوم من كلام العرب مثبت في أشعارهم ومعاجم اللغة، أي أن الله خلق آدم على صفاته سبحانه من سمع وبصر وعلم.
     ومعلوم أن المثل لا يلزم منه المشابهة ولا المطابقة بحال؛ فأنت تقول أن أن القصر كالخيمة بجامع السكن مع عدم المشابهة والمطابقة، والحمار كالسفينة بجامع الركوب كذلك. وقد صحت وثبتت نسبة الصورة إلى الله عز وجل في غير هذا الحديث، فقد أخرج الشيخان بألفاظ متقاربة عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما حديث مجيء الرحمن يوم القيامة على صورة يعرفها عباده المؤمنون، كما في نص رواية أبي هريرة عند مسلم قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه..)، فنسبة الصورة لله سبحانه وتعالى ثابتة في الأدلة الشرعية كبقية صفاته سبحانه، لكن المتطاول ينفي صفات الرحمن وليس فقط الصورة، فتنبه.

-               ثم أورد المتطاول استشكال ابن حجر لمسألة طول آدم عليه السلام في هذا الحديث (ستون ذراعا) ليستخدم هذا الاستشكال في طعنه على الحديث برمته، وهنا فرق دقيق؛ فلا يزال العلماء قديما وحديثا يستشكلون معانٍ في الأدلة الشرعية ولا يطعنون فيها؛ ففرق بين الاستشكال بعلم والطعن بجهل! ولهذا تجد للعلماء كتبا وأبوابا كثيرة في بحث مشكل التفسير ومشكل الحديث، ولا تجد واحد يجرأ أن يرد دليلا شرعيا بسبب استشكاله، فالمتطاول هنا بين خيارين: إما أن يتهم جميع علماء الأمة بالغباء والجهل لعدم ردهم الأدلة الشرعية مع مخالفتها للعقل صراحة بزعمه وأنه هو الوحيد الذي يفهم ويعقل، وإما أن يقر بأنه جاهل ومتجاوز لقدره ومفتات على الأدلة الشرعية وأن الأولى به طلب العلم على أصوله والتوبة إلى الله من تطاوله على دينه.

-               وبعد إيراد استشكال ابن حجر لمعنى الحديث، جاء المتطاول ليتشدق بكلام يظنه علم من السماء لا معقب له، وقد قال الشعبي: (العلم ثلاثة أشبار؛ فمن نال شبراً منه شمخ بأنفه وظن أنَّه ناله، ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أن لم ينله، وأما الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحداً أبداً) وقيل أن من نال الشبر الثاني علم أن هنالك علما لا يعلمه، وأن من نال الشبر الثالث علما أنه لا يعلم شيئا! لذا فتجد كثيرا ممن جمع نتفا من العلم شمخ بأنفه وتكبر وظن أنه العالم الأوحد والخبير الأفهم، وهذا آفة جهلة المبتدئين في كل العلوم، وكل ما زاد علم الإنسان زاد تواضعه، والناظر في حال هذا المتطاول يجد فيه من العجب بالنفس والتكبر والاعتزاز المزيف بالذات ما يجب على العاقل أن يخشى مجالسته كي لا يعمه الله بعقاب ينزله على المتطاول في حضرته، كيف لا يخشى المسلم هذا وقد قال الله تعالى عن عجب قارون بنفسه وتكبره: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ)، بل بلغ في حال هذا المتطاول وكبره وعجبه بنفسه أن يحدث الناس بكراماته ومعجزاته وأن الإنس ليسوا وحدهم من يلجؤون إليه ويستفتونه ويتبركون بدعائه بل أن حتى الجن يقصدونه في ذلك!.

-               ثم أورد المتطاول كلاما يحسبه الظمآن ماءا، فإذا دقق فيه الباحث عن الحق وجده سرابا، وهذه عادة أهل الأهواء، كما أورد استشكال ابن حجر وبنى عليه باطلا من عنده؛ فهو الآن يورد قوانين استقرائية من علمي الأحياء ووظائف الأعضاء ليجعلها حكما على أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام الموحى إليه من رب الكون سبحانه! فاعترض على حديث خلق آدم و(طوله ستون ذراعا) بقانون أبعاد الكائن الحي أو ما يسمى بقياس التنامي، وأول ما يجاب عنه هو أن أحاديث خلق آدم وطوله ستون ذراعا وأن أهل الجنة على طول آدم ستون ذراعا جميعها في عالم السماء حيث لا تنطبق عليها قوانين الأرض؛ فلماذا هذا السعار إلى رد الحديث وتكذيبه؟ ألم يكن من الممكن أن يوفق المتطاول بين قانون أبعاد الكائن الحي وبين أن آدم خُلِق وطوله ستون ذراعا بالقول أن آدم كان بهذا الطول في السماء وليس في الحديث إشارة إلى أن هذا هو طوله في الأرض؟! نعوذ بالله من عمى البصائر وران القلوب الذي يدفع إلى تكذيب الأدلة الشرعية. كما أن قياس التنامي وقانون أبعاد الكائن الحين تتداخل فيها عوامل مؤثرة كثيرة وتختلف بالنسبة للكائنات الحية المختلفة، فعلماء الأحياء يقولون بإستحالة وجود إنسان بهذا الطول تحت الظروف الحالية وبنفس شكل وطريقة عمل وظائف الأعضاء، وأنه لو قُدر وجود إنسان بهذا الطول فلن يكون مشابها للإنسان اليوم، وإذا سألنا أي مسلم موحد عن قدرة الله على تغيير قوانين الطبيعة وتبديلها في أي لحظة لأجاب أن الله قادر على ذلك وهو بديع السموات والأرض، وسيفجع القارئ أن المتطاول يقول بما فحواه أن الله قادر أن يخلق ويغير قوانين الطبيعة إلى الأسوأ وليس في الإمكان خلق وتغيير إلى الأفضل بناء على قاعدة "ليس في الإمكان أفضل مما كان" التي يدافع عنها، تعالى الله عما يقول علوا كبيرا! وعودا على كلام علماء الأحياء، فيجب التنبيه هنا أن علماء الأحياء في الغرب واقعون ومقرون بنظرية النشوء والتطور وأن الإنسان لم يخلق خلقا مستقلا وأنه تطور من سلالة القردة، ومجرد إقرارهم بإحتمالية وجود إنسان طوله أضعاف الإنسان الحالي هو هدم لنظريتهم؛ فتجد غالبيتهم يستميت في الدفاع عن قانون أبعاد الكائن الحي وأنه قانون مقدس فقط لكي لا يمس جناب نظرية داروون بسوء، في حين لا يتردد المتطاول لحظة في رد الأدلة الشرعية بناء على نظريات الملاحدة! ولذلك في أي نقاش مع كثير من المختصين في علم الأحياء حول إمكانية وجود إنسان أكبر حجما منا بأضعاف؛ يُهاجم المناقش ويسائل عن هدفه من هذا النقاش لعلمهم أنه سيهدم ركنا أساس من نظرية داروون للنشوء والتطور، ومع هذا وتحت ضغط المنهج العلمي يقر المحايد منهم بإمكانية وجود إنسان ضخم في ظروف مختلفة وبشكل وقدرة لوظائف الأعضاء مختلفة. علما أن علماء الآثار والأحافير وجودوا أحافير لكائنات حية يعادل حجمها وطولها أضعاف حجم جنسها اليوم، فقد نشر موقع البي بي سي قبل ستة أشهر في شهر أبريل/ نيسان 2012 عن اكتشاف معهد سميثسونين للأبحاث أحافير لثعبان طوله 30 متر مع العلم أن متوسط طول الثعابين اليوم هو 1,5 متر! كما أن جامعة نورث كالورنيا أعلنت في موقعها قبل خمسة أشهر في شهر مايو/ آيار 2012 عن اكتشاف أحافير لسلحفاة حجمها يقارب حجم سيارة صغيرة، وهو ما يعادل أربع أضعاف معدل حجم أضخم السلاحف اليوم! بل قبل ست سنوات تقريبا أعلن موقع البي بي سي عن اكتشاف فريق أبحاث سوري-سويسري مشترك عن أحافير في صحراء سوريا لجمل هو أكبر بضعفين من حجم الجمل في زماننا هذا! فكيف يفسر المتطاول هذه الاكتشافات العلمية وفق قوانين الأحياء وظروف الطبيعة المحيطة وقدرة وظائف أعضاء الكائنات الحية المماثلة اليوم؟! وأختم الرد في هذه النقطة بسؤال المتطاول عن رأيه في قول الحق سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)؟ وهل يعقل بقوانين الأحياء ووظائف الأعضاء والطب اليوم أن يعيش الإنسان أكثر من ألف سنة؟ أم أن هذه الآية من دسيس الإسرائليات كذلك وأن القرآن محرف؟

-               وآخر طعون المتطاول على هذا الحديث هو طعنه في آخره (فلم يزل الخلق ينتقص بعد حتى الآن)، والرد على هذه النقطة متعلق بسابقتها، إلا أنني أفيد القارئ الكريم بأن هذه المسألة متفق عليها في العلم الحديث، بغض النظر عن نسبة التناقص، فالتناقص حقيقة علمية مثبتة أم الاختلاف فهو حول هذه النسبة، في حين أن المتطاول ينفي هذا كله ويعتبره كذبا؛ فإن لم يؤمن بصدق أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلان، فلعله يخضع ويقر بحقائق علم ملاحدة الغرب الذي يجعله حكما على الأدلة الشرعية؛ فقد نشرت جامعة كامبرديج بحثا قبل أكثر من سنة في يونيو/ حزيران 2011 مفاده أن جسم الإنسان يتناقص وأن حجمه نقص بما لا يقل عن 10% خلال عشرة آلاف سنة، وفقا للأحافير المكتشفة، بل أن حجم دماغ الإنسان يتناقص كذلك وليس فقط حجم هيكله! وأقول والعلم عند الله، أنه لو أجرى الباحثون دراسة على حجم دماغ المتطاول لربما تعجبوا من تناقص حجمه فسيولوجيا كتعجب العقلاء من تناقصه معرفياً.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

وكتبه/ فيصل بن فالح الميموني
@AlmaymonyF

7 فبراير 2012

إلى أخي حمزة، جوابا عن بيانك..



إلى أخي حمزة، جوابا عن بيانك..



أخـي المـكـرم/   حــمــزة كــاشـغـري        ،،   سـلـمـه الله


     السلام عليكم ورحمة لله وبركاته، وبعد:
     فأكتب إليك بحبر المحبة، وعبراتي تزاحم عباراتي، على ورق الصدق.. لعلك مثلي تعرف معنى (الحب والصدق) وتشعر بغربتهما في هذا الزمان! آهٍ لهذه الكرة الأرضية المكتظة بالناس وتشكو ازدحام السكان، كيف كان لها أن تضيق عن (الحب والصدق) ولا تكشف لهما عن أرض بكر ليعيشا عليها بسلام؛ فارتحلا من الواقع ليسكنى وجدان الخيال ويختبئا في ضمير الغرباء من البشر! قد يقرأ خطابي هذا إليك سوانا.. لكن لن يفهمها إلا غريب قادر على أن يقرأ حبر (الحب) الخفي على ورق (الصدق) السحري..

     أخـي حــمــزة..
     قرأتك بيانك الذي أردت أن تضيء به الظلام الذي أحاطك مؤخرا.. أرأيت كم هو حزين هذا العالم الذي نحن فيه؟! ضاق عن (الحب والصدق) ليتسع لـ(ظلام) مخيف يسكن بيننا ويعزل من نحب بعيدا عنّا.. كما عزلك (أنت)..! آهٍ كما اشتقت إليك مع أني لم ألقك من قبل.. سمعت عنك.. أُخبِرتُ بك.. لعلي معرفتي بك كانت متأخرة.. إلا أنها امتدت لتصلك في الماضي.. ربما في مركز الإمام الغزنوي الصيفي.. أو في حلقة التحفيظ بالمسجد الذي عَرفتَهُ وعرفك..! لكنّك لم تصل إلى موعدنا في الحاضر.. وهاأنت تعترف لي في بيانك الأخير أنك أُيعِدتَ عن (الصراط المستقيم) وسلكت صراطا آخر موحش.. يا إلهي كم يجتاحني الرعب أن أضل عن هذا (الصراط المستقيم) فلا أصل إلى حيث يجتمع (الأحبة) في المستقبل.. ولا يجدني (المحبون) عليه في الحاضر.. فأتوسل إلى ربي منكسرا علّه يجيب صلاتي ويهديني (الصراط المستقيم).. أتشعر مثلي بهذا الانكسار والغربة إذا وقفت أمام الرب جل في علاه وأنت تجل الثناء عليه وترجوه.. (اهدنا الصراط المستقيم).. (اهدنا الصراط المسقيم)..

     أخـي حــمــزة..
     بشراك.. بشراك.. هاأنت اليوم أقرب ما تكون من الإجابة.. أن يعرف الإنسان ويعترف أنه حاد عن (الصراط المستقيم) هي أولى خطواته على هذا الصراط.. سر عليه وتمسك به.. اعرفه جيدا ولا تحد عنه.. ارفع رايته واعرف من فيه.. حتى إذا فقدت أحدا من سالكيه ناده بأعلى صوتك (اركب معنا).. فمن علامات السائرين على هذا الصراط: الحب.. الحب يسكن ضمائرهم.. ويكسو جوانحهم.. حتى فاض عنهم وأصبحوا هم من يسكن في الحب.. حبهم للرب في علاه.. آهٍ ما أروع هذا الحب وأقدسه.. حبهم للجناب الشريف صلوات ربي وسلامه عليه.. آهٍ ما أطهر هذا الحب وأعمقه.. حبهم الممتد من خلق آدم في بداية البشرية.. إلى موت المسيح في نهاية العالم.. مرحبا بك أخي في عالم الحب.. فالله وضع هذا الصراط لمن (يحبهم ويحبونه)..

     أخـي حــمــزة..
     أبكاني والله ما ند عنك من المساس بالجناب الشريف صلوات ربي وسلامه عليه.. ألا ليت الله افتدى عرض خليله بي ولا ينال مقامه الطاهر، فداه أبي وأمي، أذى القول.. ألا ليتني ما طال بي العمر وأنه سبق أجلي على خير قبل أن أكتب لمن أحب من (المسلمين) حزنا لما صدر منه تجاه مصطفى الله وحبيبه.. أما سمعت عن الصحابية من بني دينار لما عاد المسلمون من أحد ونعوا إليها أبوها.. وأخوها.. وزوجها.. فأخذت تسأل مفجوعة: وما فعل رسول الله؟ وما فعل رسول الله؟ .. فقالوا لها: خيرا يا أم فلان، هو بحمدالله كما تحبين.. فقالت لهم: أرونـــيـــه حتى أنـــظــر إليه.. فأشاروا إليه لترى أنه، صلوات ربي وسلامه عليه، سالم حتى وإن مات أبوها وأخوها وزوجها.. فلما رأته سالما قالت: كــل مــصــيــبــة بـــعـــدك جلل.. نعم، فوالله لأن يفنى المسلمون خيرٌ من أن يُخلَصَ إلى رسول الله وفينا عرق ينبض ولا عين تطرف.. قد كان ما كان.. وهاأنت اليوم تعلن توبتك وتستغفر من ذنبك العظيم.. فابكي ثم ابكي.. وعد وابكي.. حتى تنتهي دموعك علّ الله يقبل توبتك ويمحو زلتك.. فذاك الصحابي ثابت بن قيس أخذ يبكي لما نزل قول الله ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) خوفاً أن يكون قد رفع صوته فوق صوت الجناب الشريف، صلوات ربي وسلامه عليه، لأنه كان رجل صيّت.. فغشاه البكاء حتى أمر أهله بحبسه في غرفة حتى يتوفاه الموت أو يرضى عنه الرسول.. وما خرج من غرفته تلك حتى جاءه الرسول وأخرجه من حبسه وبكائه.. فكم ستبكي أخي حمزة؟.. ومن تراه مخرجك من بكاك وقد أفضى رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلي..؟!

     أخـي حــمــزة..
     قد أراه بلغك ما قاله السادة العلماء والأئمة الفقهاء في حكم من تعرض بالأذى للجناب الطاهر، صلوات ربي وسلامه عليه.. وأنا أحسن بك الظن كما أمرنا حبيبنا رسول الله.. ولا أخوض في النوايا.. لكن، إن كانت توبتك صادقة فلا تخشى القضاء الشرعي.. ولا ترضى أن يدافع عنك من صاحبك في زمان الظلام وبعدك عن النور.. فأهل الصراط المستقيم يستجيبون لندائه وأمره (قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم).. أما أهل الظلام فيغشون أنفسهم ومن كان معهم و(يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون).. وتمام الإيمان هو بالرضى بحكم الله وشرعه.. (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).. وأحسن الظن بالله أخي حمزة.. فما كان الله ليظلم عباده ويضيع من لجأ إليه ويرد من صدق في توبته.. وأنا هنا لا أتحدث باسم القضاء ولا أدري بماذا سيحكم.. لكن ما أشد ما قد يكون منه؟ الحد الشرعي؟.. ثم ماذا؟.. أما تعرف أن الحد لمن تاب من المعصية هو بمثابة الكفارة له من فعله؟.. من أجل ذلك ذهب الصحابي ماعز بن مالك والصحابية الغامدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيم عليهما الحد فتكون كفارة لهما ويسجلا اسميهما في ديوان المغفور لهم بشهادة المصطفى.. وأنت تعلم أخي حمزة أنه سبق للناصحين أن حاولوا معك فأبيت واتبعت خطوات الشيطان حتى أوقعك أمام مئات الآلاف من الناس في الجناب الشريف صلوات ربي وسلامه عليه.. ففوض أمرك إلى الله.. وأعلن أنك راض بحكمه.. وسلم نفسك للقضاء الشرعي وأنت تردد (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).. ولا تقبل أن يغشك أحد فيحول بينك وبين القضاء الشرعي، وقل له كيف أكون صادقا في توبتي وأنا أرضى بأن أهرب من حكم الله؟! .. واجعل حكم الله في رقبة القاضي الشرعي وذمته؛ فإن حكم لك بالسلامة فقد صَدقتَ الله وبقي عليك الإكثار من الاستغفار والعمل الصالح (إن الحسنات يذهبن السيئات)..

ولك من أخيك المحب كل الصدق..

فيصل بن فالح الميموني

26 يناير 2012

العنصرية الثقافية من خلال الهجوم على المزاين



العنصرية الثقافية من خلال الهجوم على المزاين


     تعبر الثقافة الشعبية عن الحالة الإنسانية متمثلة في شكلها الجماعي وطريقة تعاطيها مع الحياة من جميع النواحي، ويتم التعبير عن هذه الثقافة الشعبية من خلال أشكال تعبيرية وسلوكية (حكاية- حكمة- شعر- رقصات- مناسبات- عادات.. الخ)، والجزيرة العربية منطقة غنية بإرث تاريخي ثري انعكس على الثقافة الشعبية فيها وموروثها. من ذلك الإرث الممتد عبر الإنسانية، كإحدى تماثلات الثقافة، عناية العربي وعلاقته الوطيدة بالإبل، وقد يبدو الحديث عن علاقة الإنسان العربي بالإبل نوع من المبالغة في زمن المادية وضبابية الحضارة وهشاشة الجذور الثقافية؛ مما أجدني فيه مضطرا لأن أستعرض بشكل موجز بعض معززات هذه العلاقة وصورها:

-         فالله سبحانه وتعالى خص الإبل بإبداع خلقة ومنّ على عباده بها وقرنها بعظيم إبداع خلق السماء والجبال والأرض (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ ‏رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ).
-         تعتبر الإبل في الفقه من نفائس الأموال.
-         وتعكس معاجم اللغة العربية طبيعة اهتمام العرب بالإبل من خلال اللغة؛ ففي حين لا تتجاوز عادة العرب في الجمع ثلاث مرات، نراهم أفردوا الإبل بكثرة الجموع (الجمل: تسع مرات- الناقة: إحدى عشرة مرة).
-         وتقول العرب: ما خلق الله خيرا من الإبل؛ إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت.
-         ونهى قيس بن عاصم بنيه في وصيته عن سب الإبل فقال: لا تسبوا الإبل فإنها رقوء الدم ومهر الكريمة.
-         وروى الأصمعي أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أعجبته ناقة ركبها فأنشد:
كأن راكبها غصن بمروحة ::: إذا تدلت به، أو شاربٌ ثملُ
ثم سكت واستغفر الله. يقول الأصمعي: فلا أدري أقاله أم تمثل به!

     وغيرها من صور العلاقة المتينة للعرب بالإبل والتي ما انقطعت يوما إلى زماننا هذا، بل أن الباحثين في التاريخ يرون علاقة العربي بالإبل امتدادا لعلاقة تاريخية قديمة قدم البشرية. وهذا الذي يجعلنا نفهم الصورة الحاضرة للاهتمام بالإبل في الجزيرة العربية عموما وفي السعودية خصوصا من خلال القنية والتربية والشعر ومؤخرا مهرجانات المزاين، إلا أن المضحك المبكي هو الهجوم الشرس على مهرجانات المزاين والسخرية من هذه الثقافة الشعبية، ومن المؤسف محاولة إلباس هذا الهجوم العبثي على هذا الموروث الشعبي مسوحا ثقافيا؛ فكان التحول من الثقافة الشعبية إلى الثقافة العنصرية!

     لعل الدكتور عبدالله الغذامي، سلمه الله، يسمح لي بإستخدام عباراته لتفكيك هذه الثقافة العنصرية؛ فالنسق المختبئ بين ثنايا محاولة الحياد في نقد المزاين يفضح عنصرية هذا الخطاب الثقافي، وبقراءة سريعة لما كتب من نقد للمزاين تجده منصبا على الصورة الكلية للمزاين من خلال صور جزئية سلبية غير منحصرة في المزاين كفعل جماعي، وبالتالي هو نقد للثقافة الصحراية التي أنتجت هذا الفعل الجماعي باعتباره سمة فارقة لها، بعبارة أخرى: نحن ننتقد أنفسنا وثقافتنا وطبيعة حياتنا! كثير من هذا النقد الثقافي العنصري هو وليد ساذج للنظرة الدونية للثقافة العربية المتمدنة، بصورتها المستنسخة من الثقافة المستعمرة، لكل المخرجات الثقافية القادمة من الصحراء! ولتوضيح هذه العنصرية الثقافية تجاه الثقافة الصحراية أقول: انظر في استعمال الإسراف والمبالغة في أسعار الإبل كحجة ظاهرية في نقد المزاين (الثقافة الصحراوية) لتجدها غائبة في وعي خطاب ثقافي معدوم لنقد الأسعار الخيالية للوح الفنية (الثقافة المتمدنة)! و تعبيرا عن خطاب نقد المزاين تجد مفردات ثقافية تحورت لتحمل دلالات سلبية تكشف عنصرية هذا الخطاب الثقافي وتردداته، فمفردات من مثل (أعراب- بدو) انتقلت من كونها وصوفا محايدة إلى أن أصبحت مترادفات هجومية عنصرية ]على سبيل المثال، نشر موضوع ينتقد مهرجان المزاين في منتدى هوامير البورصة بعنوان: توافد الأعراب على أم رقيبة في مزاين الإبل[!

     بل أن نسق هذه الثقافة العنصرية لم يكن بحاجة دوما للاحتماء خلف نقد أي سلوك سلبي لمهاجمة الثقافة الصحراية (المزاين) بل كشف نفسه، غير مرة، في مهاجمة هذا الموروث الثقافي المتمثل في العناية الفائقة بالإبل ]نشر أحد الفضلاء كاريكتور في تويتر يسخر من مفهوم جَمال الإبل، وعلق قائلا: لم أتصور أننا سنعيش ونرى تجمهرا للسعوديين حول هذه المزيونة، وبهذا اللبس الكاسي العاري، والتي صرنا بسببها مسخرة[!.

     ما أشرت إليه سابقا هو تسليط للضوء على هذه الثقافة العنصرية بصورتها الساذجة والمتسربة بشكل عفوي إلى خطاب نقد المزاين، وفي المقابل هنالك الثقافة العنصرية القاصدة للنيل من الثقافة الصحراوية، كما يمكن تحليل هذه الثقافة العنصرية من خلال تناولها بمعيار الميكرو والماكرو؛ إلا أنني أرى ما طرحت كافيا لدعوة الفضلاء للكتابة حول هذا الموضوع والخروج من الثقافة العنصرية (نقد المزاين) إلى الحفاظ على الثقافة الشعبية وتقدير الموروث الثقافي (المزاين) بمسارين متلازمين: مدح الإيجابي ونقد السلبي.

ودمتم سالمين،،

حتى أنت يا شكسبير..!!



حتى أنت يا شكسبير..!!

على هامش قضية الشيخ عائض القرني والأستاذة سلوى العضيدان


     ذكرني حكم وزارة الثقافة والإعلام السعودية، ممثلة بلجنة حقوق المؤلف، بثبوت سرقة الشيخ الدكتور عائض القرني من كتاب الأستاذة سلوى العضيدان بالشك في أن شكسبير، بكبره، ليس إلا منتحلا جهد غيره! ويبدو أن عام ٢٠١١ لم يكن فقط عاما سقطت فيه رؤوس سياسية، بل شملت بركاته المشايخ والأدباء والمثقفين كذلك؛ ففي أواخر عام ٢٠١١ أثار فيلم سينمائي من جديد قضية أن ويليام بن شكسبير، ما غيره، مجرد خدعة كبيرة! وتناولت وسائل الإعلام العالمية، مثل الجارديان والتلغراف والتايم ووسائل أخرى، طرح الفيلم بجدية وأعادت طرح النقاش حول شكسبير بنقد أكبر.

     الطرح المُشكك في حقيقة انتاج شكسبير لهذا الإرث الأدبي يزعم أن شكسبير مجرد محتال آخر، ويستند في ادعائه على عدة محاور وثغرات في سيرة شكسبير، ويقدم المشككون تساؤلات وجيهة ومثيرة في آن معا، منها:

‌أ.        لم يقدم شكسبير نفسه خلال حياته على أنه أديب، كما لم يعرفه أحد أثنائها بهذه الصفة كذلك! وأول ظهور لشخصيته الأدبية كان عام ١٦٢٣ ، أي بعد وفاته ب٧ سنوات!
‌ب.    لم يُعثر ولا توجد أي مخطوطة أدبية بيد شكسبير؛ لا مسرحية، لا قصيدة، ولا حتى رسالة! بل لا يوجد أحد ثبتت مقابلته للأديب شكسبير في لندن أثناء مدة اقامته فيها كشاعر وفنان!
‌ج.    حسب سيرة شكسبير فقد ولد عام 1564 في مدينة سترتفورد وعاش فيها لمدة تزيد عن 26 سنة، تزوج خلالها وأنجب ثلاث أبناء، لكن سيرته تحصر انتاجه الأدبي بعد ذلك في فترة عيشه "وحيدا" في لندن!
‌د.      تزعم سيرة شكسبير أنه تقاعد من عمله الفني في لندن وعاد لمدينته سترتفورد في سن الثامنة والأربعين، الغريب أنه لم يقدم أي انتاج أدبي هناك كذلك!
‌ه.      الثابت أن شكسبير، ابن المزارع البسيط والتعليم العام المحدود، ليس بالأرستقراطي ولم يخالط أحدا من أبناء هذه الطبقة؛ فأنّى له هذه المعرفة الغزيرة بحياتهم وثقافتهم في مسرحياته؟ وكيف تسنى لابن الريف التعرف على المدن الأوربية والثقافات الأخرى مما سمح له تصويرها بشكل دقيق في أدبه؟
‌و.     الكتابة الوحيدة التي عثرت بخط اليد ويعتقد أنها لشكسبير كانت عبارة عن "توقيع" في دفتر للنزلاء في إحدى فنادق لندن، في الفترة الي أقامها فيها، وكانت بخط رديء يكشف تعثر صاحبه في تهجئة اسمه بشكل صحيح!
‌ز.      لا شك أن أعظم الأدب يكون نتاجا للتجربة الإنسانية ومعاناة الأديب؛ فلماذا لم يكتب شكسبير، ولو بيتا واحدا، عن وفاة طفله وهو في عمر الحادية عشر!
‌ح.    الانتاج الفني للأديب من أهم إرثه المادي والمعنوي، لكن شكسبير لم يتطرق لأدبه البتة في وصيته، لكنه في المقابل نص في وصيته على أن يكون السرير، وهو ثاني أفضل سرير لديه، من نصيب زوجته!

     وبعد هذه الثغرات، وغيرها، نجد أنفسنا أما سؤال جاد مفاده: (من هو المؤلف الحقيقي لكل هذه القصائد والمسرحيات والأدب العميق؟)، تدور التكهنات حول شخصيتين عاصرتا شكسبير، وهما؛ الشاعر كرستفور مارلو أو النبيل إدوارد دي فيري، وتعتمد هذه التكهنات على عدة تحاليل، إلا أنني أظن أنه لا أحد أقدر من لجنة حقوق المؤلف بوزارة الثقافة والإعلام السعودية على كشف الحقيقة للجمهور العالمي هذه المرة!.

     نعم، شكوك كثيرة طرحت حول شكسبير هل هو قلم مستعار أم مجرد سارق؛ لكن فحوى كلام الدكتور عائض القرني، في رسالته الأخيرة للأستاذة العضيدان بعد ثبوت السرقة، تقول (وماذا إذا؟! فحتى ابن تيمية نسب لنفسه ما ليس له..!!)

ودمتم سالمين،،


موجة لبرلة الإسلام




على هامش اللقاء الثقافي الأول- 4
"يونيو 2011"

موجة لبرلة الإسلام


     في ثلاث مقالات سابقة قيدت ما جال في خاطري أثناء اللقاء الثقافي الأول الذي نظمه مركز الفكر المعاصر برئاسة الدكتور ناصر الحنيني- وفي رواية ضعيفة لأحد المداخلين الدكتور عبدالرحيم السلمي- بمدينة الرياض، ولما وصل بي سير الخاطر إلى ورقة الأستاذ أبي عمر، إبراهيم السكران- وفقه الله- رجحت الاكتفاء بالمقالات الثلاث السابقة لبعض الاعتبارات، أهمها: أن بعض المتابعين لشأن الفكر الإسلامي في السعودية يرون في الأستاذ السكران انتقاله الحاد من اليسار إلى اليمين، وأن هذه النقلة تؤثر فيها العاطفة الفكرية التي تنخز صاحبها ليكفر عن طرحه السابق بطرحه اللاحق، على اعتبار أن الفكر السابق مما تجب "البراءة" منه عند كل المتحولين فكريا، وبغض النظر عن ما في هذا التحليل من الحق والباطل؛ ارتأيت أنه من الأولى التأني في التعاطي النقدي مع اطروحات أخي الأستاذ السكران، الذي أدعوه وأدعو الله لي وله أن يتحرى الحق جهده ولا يأبه بما قيل ويقال وسيقال. ومما شجعني للعودة للكتابة أمران: الأول، دعوة الدكتور أبي أسامة، عبدالعزيز قاسم، وفقه الله، عميد مجموعة القاسم البريدية وملك ملوك أفريقيا، باعتبار تعلقه الدائم بالنجاشي والذي أبرأه من التعلق الديني الصوفي فلم يبقى إلا التعلق السياسي! والأمر الثاني، تعقيب الدكتور عبدالوهاب الصالحي- وفقه الله- على مقال للأستاذ السكران، فقلت لعل مريدي الأستاذ السكران ينشغلون بصب جام غضبتهم عليه وأن أخرج سالما من تعرضي له!.

     يمكن تقسيم ورقة الأستاذ السكران إلى ثلاثة أجزاء، بعض الأخوة الظرفاء الأذكياء يقول أنني أعاني من تثليث فكري! فكل شيء عندي له ثلاثة أبعاد حتى أصحابي على طاولة الاستماع كانوا ثلاثة؛ الجزء الأول كان استعراض تاريخي "لكوكتيل" الفكر الإسلامي (يسارية إسلامية، قومية إسلامية، ديموقراطية إسلامية)، الجزء الثاني تأكيد على وجود تيار ما يسمى "بالليبرالية الإسلامية"، والجزء الثالث استعراض سريع لبعض القضايا التي يُعرف بها تيار الليبرالية الإسلامية! في رأيي أن لو سميت الورقة (حول الليبرالية الإسلامية) لكان أقرب لمادتها؛ حيث أن العنوان يوحي بأن الورقة متعلقة بتحليل الفكر (بداياته، منهجه، أفكاره، أهدافه، آلاته، منطلقاته... الخ)، إلا أن الورقة، على قيمتها، لا تعدو أن تكون تجييش العاطفة الفكرية ضد ما يسمى بتيار الليبرالية الإسلامية من خلال ربطها التاريخي بتيارات فكرية باءت بالفشل (كاليسار الإسلامي والقومية الإسلامية)، وإعجاب الكتاب الغربيين بهذا التيار ودعمه، وانتقاء آراء فكرية مرفوضة لتيار الليبرالية الإسلامية لتكون سمة لذلك التيار.

     أبرز ما يمتاز به الليبراليون الإسلاميون أنهم يوافقون الغرب في اختياراتهم الفكرية، وقد وافق الأستاذ السكران الكتابات الغربية في تسمية هذا التيار بالليبرالية الإسلامية، وقد جعل هذه الموافقة هي أداة هذا التيار في قراءة التراث الإسلامي والانتقاء منه والترجيح بينه، ولم يبين الأستاذ السكران كيف حرر هذه الميزة؟ هل وجد لهم نصا في ذلك؟ أم كان من خلال استقراءه الشخصي وتتبعه لجميع اطروحاتهم ومقارنتها بأفكار الليبرالية الغربية مع عدم وجود أي عامل مشترك آخر؟ مثاله حد الردة الذي طرحه الأستاذ السكران في العلامات الفارقة لهذا التيار؛ فكيف تتم دراسة رأي هذا التيار في حد الردة ورأيه في القصاص من القاتل؟ حيث أن الليبرالية الغربية تقدس الحياة وترفض عقوبة الإعدام تحت أي مسمى، في حين أن الليبراليين الإسلاميين، كما يسميهم الأستاذ السكران، لا يقولون برفض حد القصاص من القاتل! وقد يعترض البعض على هذا المثال بأن موافقة هذا التيار لليبرالية الغربية هو من باب حرية الفكر فأقول قد يكون، إلا أن الليبرالية الغربية تجرم بعض الأفكار، على اعتبار آثارها المحتملة، كمعادة السامية والفاشية النازية؛ فرفض الليبرالية الغربية لحدة الردة الإسلامي هو حرية الفكر إضافة لرفض عقوبة الإعدام لأي فكر معتنق في حال تجريمه! فهل وافقهم الليبراليون الإسلاميون في بعض وكفروا ببعض؟ هذا يعني أن موافقة هذا التيار لليبرالية الغربية ليست سمة مطلقة!

     جزء كبير من هذا التحليل لهذا التيار يقوم على أساس القصد والدخول في النوايا، وهو ما أشار له الدكتور وليد الهويريني- وفقه الله- في مداخلته، والذي أعتقده أن الأستاذ السكران بنى استعراضه لهذا التيار على التجربة الفردية والمعاشرة الشخصية أبان تبنيه لهذا الفكر، وهذا منهج لا يمكن الوثوق بعمليته حتى وإن أصاب في حالات كثيرة، فالتجارب الحياتية يعتريها كثير من الشخصنة تفقدها موضوعيتها، فأنا أستطيع أن أقول بناءا على تجربتي الشخصية مع بعض رموز هذا التيار والزملاء المشتركين بيني وبين الأستاذ السكران أن هدفهم هو مخالفة التيار السلفي "المحافظ" أكثر من موافقة الفكري الغربي! إلا أنني أعلم أن هذا التعميم مخل بالموضوعية ولا يمكن الاعتماد عليه حتى وإن انجر تطبيقه على جميع ما ذكر الأستاذ السكران في ورقته من أمثلة لبعض القضايا التي يعلي بها الليبراليون الإسلاميون عقريتهم أو يعتلونها.

ودمتم سالمين..

الاستعلاء اليقيني



على هامش اللقاء الثقافي الأول- 3
"يونيو 2011"

الاستعلاء اليقيني


     بعد إنتهاء محاضرة الشيخ الدكتور سعد العتيبي، وفقه الله، "حول" النظرية السياسية الإسلامية، رأيت الشيخ بندر الشويقي، سلمه الله، فابتدرته بالسلام والسؤال عن ورقته للغد بعنوان (الاستعلاء اليقيني) عن أيشٍ هي "حوله"؟! فابتسم وأجاب بما معناه أنه يفضل أن يجعل العنوان مغلقا بعموميته إلى موعد الكشف عن محتواه في الغد، وفاتني أن أبارك له حصوله على درجة الدكتوراة التي سررت لما رأيت "دالها" تزدان قبل إسمه، إلا أنني لم أرد أن أعطل الشيخ عن إكمال مشيه لقصده أو أن أتعطل أنا عن "مناشبتي" لمن رأيت من المشايخ والأفاضل الكرام الذين يعلم الله مدى سروري بالاجتماع بهم من جديد.

     الدكتور بندر، وفقه الله، علم على رأسه نار، قارئ مطلع، سلفي بجدارة، عقدي متمكن، ذو بشاشة ولين جانب إلا أنه يتعصب للمنهجية والعلمية في طرحه ونقاشاته؛ فالذي أعرفه عنه منذ زمن بعيد أنه يرحب بالاختلاف معه ويتسع صدره لذلك، إلا أنه يضيق بالمهاترات خارج إطار البحث العلمي. قد تكون كلماتي السابقة سيرا على مداراة الدكتور أبي أسامة عبدالعزيز قاسم لأحبابه السلفيين خشية غضبتهم، إلا أنها شهادة حق أسجلها للدكتور بندر قبل طرق بعض النقاط التي اختلفت فيها معه "حول" ورقة (الاستعلاء اليقيني).

     تحدثت وأصحابي على الطاولة، الثالثة الذين خلفهم حظهم للجلوس معي على طاولة الاستماع، عن توقعاتنا عن موضوع الورقة فكنا مجمعين على ظننا بأنها متعلقة بضرورة عرض الحق من منطلق الاعتزاز به ويقينية صوابه، طبعا إجماع صاحبي الثالث منهم كان من قبيل الإجماع السكوتي! فكان ما توقعناه صحيح حول محتوى الورقة مع عرض مطول لمعاني الاستعلاء واليقين وصور لبعض المسائل اليقينية التي ضعف عن الاستعلاء بها بعض الإسلاميين! إلى هنا كلام جميل ومحل اتفاق، إلا أن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، وهو ما حاول بعض المداخلين استثارت المحاضر للحديث عن بعضها؛ من مثل متى يكون "اليقين" يقينا ملازما للاستعلاء؟ وماذا عن الشعرة الفاصلة بين اليقينيات والظنيات؟ وهل الاستعلاء يشمل تطبيقه على جميع المدارس الفكرية والعلمية داخل وخارج الإطار الإسلامي؟ أسئلة مطروحة وشبيهاتها لم تطرح تركها الشيخ بندر، في ظني، بلا فاصل جواب.

     من نافل القول أن العلماء يتناولون الأدلة الشرعية بمعيار يقيني يتعلق بمدى ثبوتها ودلالتها، أو ما تعارف عليه بالقطعي والظني، فاليقين بدلالة الظني ليست كما اليقين بدلالة القطعي ولا شك! ولمعالي الشيخ سعد الشثري، وفقه الله، فيما أذكر كتابا حول القطع والظن عند الأصوليين. ويمكن تقسيم مدى قطعية وظنية الأدلة الشرعية من حيث الدلالة إلى قسمين: العقيدة وفقه؛ فالقسم الأول غالب أدلته قطعية الدلالة، أما القسم الثاني فغالب أدلته ظنية الدلالة. ومن هنا نفهم إحدى أسباب اختلاف الفقهاء فيما بينهم وانقسام الفقه الإسلامي في محصلته إلى أربع مذاهب رئيسة! والعقيدة الإسلامية بلا ريب ترجح في ميزان الأهمية واليقين وإن كانت مسائلها أقل بكثير من مسائل الفقه، أي أن العقيدة في حجم المسائل أقل وفي حجم الأهمية أكثر مقارنة بالفقه. لكن ما المراد من هذا الحديث؟ مرادي، أيتها السيدات والسادة، أن حجم مسائل اليقين في الشريعة وإن كانت تحتل مكانة كبيرة إلا أنها في العدد الكلي لمسائل الشريعة قليلة! فلكم أن تتخيلوا حجم مسائل الإتفاق في الفقه مقارنة بمسائل الاختلاف التي يترتب عليها حل وحرمة، ثواب وعقاب، صحة وفساد وبطلان، دماء وأبضاع وأموال! أنا أجزم أن الشيخ بندر لا يقصد بحديثه عن (الاستعلاء اليقيني) مسائل الخلاف والظن التي يرى كل فريق أنه "متيقن" من حكمه فيها، لكن الإشكال في تعامل كثير مع هذه المسائل من منطلق (الاستعلاء اليقني)، ومن هنا نفهم الدماء التي جرت بين أصحاب المذاهب الفقهية في فترة زمانية غابرة بسبب هذا الاستعلاء!

     أرى وجوب ربط مثل هذه الأطروحات، وإن كانت تحمل من الصواب أوجه، بمفاهيم موزاية لا انفكاك بينهم كالبحث والحياد والتواضع والعذر، وأذكر في هذا الجانب ما يروى عن الإمام أحمد أنه قال: (من ادعى الإجماع فهو كاذب) وتوجيه قول الإمام أنه أراد كسر ورد من جاء ليستعلي بالإجماع في مسائل الخلاف! فكونك تدافع عن اليقين الذي لديك في مسائل الخلاف الكثيرة لا يعني أن تستعلي بالباطل على من سواك؛ سواءا كان هذا الباطل كذبا كإدعاء إجماعٍ غير موجود أو احتكارا للحقيقة! ويحكى عن الشعبي قوله: (العلم ثلاثة أشبار: فمن نال شبراً منه شمخ بأنفه، وظن أنَّه نال كل العلم، ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه، وعلم أن هنالك علما لا يعلمه، وأما الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحد!) وقيل (من نال الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئا!). ومن الواقع المعاصر فلا أظن أحدا من طلبة الإمام عبدالعزيز بن باز، قدس الله سره، يخالف في مدى استعلائه باليقينيات الشرعية، وأذكر أنه رحمه الله في إحدى مجالسه ناقشه بعض الطلبة في مسألة من مسائل العقيدة فغضب الشيخ، وهو الحليم، وقال: (قولوا سمعنا وأطعنا، قولوا سمعنا وأطعنا)، إلا أنه في المقابل من أكثر أهل العلم من تتردد على لسانه عبارات من مثل (لا أدري) (الله أعلم) (الأمر واسع) (تحتاج إلى نظر) ومثيلاتها كثير في بعض المسائل الفقهية اليسيرة التي لا يتردد بعض طلبة العلم في زماننا هذا من الجزم فيها و(الاستعلاء اليقيني) على سواه! بل إن بعض الفضلاء سمعته مرة يتحدث عن القول بأن عورة المرأة أمام المرأة هي من السرة إلى الركبة ويقول: (بعض طلاب العلم يفتي بهذه الفتوى المؤسفة! وهذا خطأ، والحقيقة سبق أن بينتها ..الخ) أرأيت كيف يستخدم البعض "الاستعلاء اليقيني" في مسألة خلافية يقول بها الإمام ابن باز، رحمه الله، ويحتكر الحقيقة لنفسه!.

ودمتم سالمين..

الانفتاح المعرفي



على هامش اللقاء الثقافي الأول- 2
"يونيو 2011"

الانفتاح المعرفي


     جمعني اللقاء الثقافي الأول على طاولة الإستماع بثلاث إخوة أفاضل: أحدهم من مدينة الظهران والثاني من ينبع والثالث كان أندرنا حديثا! حاولت أن أثير حوارا على طاولتنا لنخرج بأكبر فائدة ممكنة لهذا اللقاء بعد انتهاء "المحاضرة" الثانية حول (القيم والتحديات المعاصرة) للدكتور عبدالله العمرو، وفقه الله، والتي تبدو أنها أكثر ورقة فهمها الحاضرون كلٌ على مراده وحسبه! في الجلسة الثالثة كان الدكتور عبدالرحيم السلمي، وفقه الله، يبدأ حديثه عن (الانفتاح المعرفي) داعيا الحضور لمزيد من التفاعل والنقاش، ومن ثم سار الدكتور السلمي بطريقة موازنة بين الواقع المنغلق فكريا والمنفتح معرفيا ليرسم خطوطا عريضة يمكن تطبيقها بشكل شخصي مختلف عن الآخرين. وفي العموم فموضوع الانفتاح والانغلاق تتم ملامسته ومعالجته على بعدين: مجتمعي وفردي، وكثير من المتحدثين عن موضوع الانفتاح يتناوله بشكل فردي أو جماعي، على اعتبار جماعة ما مكونة من عدة أفراد يتناولهم الحديث بالخصوص، وليس عن المجتمع بعقله الجمعي.

     من الظاهر في مجتمعنا السعودي، بشكل لافت وخاص، ارتفاع الصوت في الدعوة للانغلاق! وأكبر مثال كاشف له في هذه الفترة هو انتقاد حركة الابتعاث الدراسي، حتى أصبح بعض المبتعثين يخشى أن يتغير تصنيفه أو أن تقل درجة موثوقيته إن صرح بأنه طالب مبتعث! بل إن عددا يعكس رؤية منغلقة أصبح يتندر بشيوع توصيفات مثل (باحث- طالب دراسات عليا)، وهي المفردات التي تحمل في جوهرها الانفتاح حيث يفتح الباحثُ المغلقَ ليجد، وليبحث الطالب في الدراسات فينال العليا! بما أن هذه هي حال البعض، ونتيجة لدعاوي الإنغلاق الفكري والمعرفي ظهرت أدبيات مغايرة تتحدث عن الانفتاح، والذي أعتقده أنه كان من الأولى توجيه الحديث عن ذم الإنغلاق لسببين؛ الأول: أن حديث أي شخص عن أهمية "التبييض" واللون الأبيض يوحي بمدى انشغاله بالسواد! أي أن البعد النفسي للحديث عن الانفتاح يُكسِبُ الانغلاق إضافةً لدرجة تأثيره ومساحته في المجتمع؛ وهذا التأثير وإن لم يكن له ما يؤيده على أرض الواقع إلا أنه يحقق اقترابه من مكانة السمة الأصيلة بالدعوة لما يعارضه، فأنت حينئذ حقيقة تنطلق من أن الانغلاق هو القاعدة وأن الانفتاح طارئ ملح! وهذا يقودني للسبب الثاني: هل الانفتاح طارئ على مجتمعنا وثقافتنا؟

     تستند دعاوى الانغلاق على مفردات شرعية تحاول من خلالها إثبات أنها سمة أصيلة للثقافة والمجتمع الإسلامي، كالحديث الذي رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب! والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي) لما رأى مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كتابا أصابه من أهل الكتاب، لكن هذا الحديث يقابله حديث زيد بن ثابت، رضي الله عنه، كما عند البخاري وأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأن يتعلم لغة يهود! فأين هو الخاص في دلالته وأين هو العام؟ الذي أزعمه أن الانفتاح هو السمة الأصيلة للثقافة والمجتمع المسلم، ويدل عليه التراث الإسلامي عبر مر العصور ابتداءا بعصر النبوة على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تسليم، فالحديث المشهور: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) كما عند البخاري وأحمد وأبي داوود، وعند أحمد والدارمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشد أبيات لأمية بن أبي الصلت فقال: (صدق)، وفي الحديث المتفق عليه أن رسول الله ضحك موافقا لما سمع خبر اليهودي: (إن الله يمسك السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، والخلائق على إصبع ، ثم يقول : أنا الملك)، وفي الحديث المتفق عليه أن عائشة نقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خبر اليهوديتين في عذاب القبر فصدقهما، ومثله كثيرٌ كثير في حال المقام الشريف، صلوات ربي وسلامه عليه، من الانفتاح سلوكا وتطبيقا، بل إن المولى جل في علاه قد ذم الإنغلاق وأن من لم يستفد من حواسه فهو كالأنعام (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) الأعراف/ 179، بل من لطيف ما قرأت يوما أن الإيمان بالغيب الذي يجب على المؤمن لا يكون إلا بالإنفتاح على الميتافيزيقيا. وأنا هنا أتحدث عن الإنفتاح كسمة للمجتمع المسلم لم يتخلى عنها في يوم، بل كان الإنفتاح طريقه لسماع الهدى والإيمان به؛ فالإنفتاح سلوك وطريق إلى المعرفة والفكر، أما قبول تلك المعرفة وتبني ذلك الفكر فهذا موضوع آخر.

     كما أشرت في السابق من أن الإنفتاح هو الأصل وأن الإنغلاق هو الطارئ، والدعاوي إلى الإنفتاح لم تكن فقط كردة فعل على دعوة الإنغلاق، بل نتجت كإحدى الصور السلبية لبتر المعرفة عن سياقاتها ونقلها من مجتمعاتها الأصلية إلينا؛ فالإنفتاح هو في أصله فكرة ناشئة في المجتمع الغربي المنغلق أو كما يسميهم بعضهم openness to otherness، فالمجتمع الغربي في عمومه مجتمع منغلق على نفسه من الطراز الأول، وكانت دعوى الإنفتاح موجهة إليه ونابعة عنه، وهي وإن لم تنجح في بداياتها فإنها لن تزال رهينة الفشل في مستقبلها، فالغرب اليوم أشد وثوقا من أن ذاته القائمة تحافظ على نفسها بتعصبها وانغلاقها على ذاتها، وأنه متى ما انفتح على الآخرين فإن مصيره إلى الذوبان، ومن هنا تفهم كيف اكتسحت البوذية الساذجة عقول كثير من الغربيين الذين غامروا بالانفتاح! ومن هنا يتضح لنا أيضا سذاجة الطرح القائل بأن الغرب منفتح على الآخر من خلال صور مستهدفة في ذاتها، كتدريس فلسفة ابن سينا أو فكر ابن خلدون في بعض الجامعات الغربية، وليس سرا أن الفرد الغربي اليوم لا يرى أبعد من أنفه!

     إن الإنفتاح المعرفي، إضافة لكونه سمة لمجتمعنا، هو أداة رئيسة في نشر الحق والدعوة إليه، ومن التسطيح ربط الإنفتاح بالتلقي فقط بلهٍ عن القبول المطلق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أنه قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل؛ عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)، وهل يبلغ هذا الدين مبلغه إلا بالإنفتاح؟!

ودمتم سالمين..