26 يناير 2012

العنصرية الثقافية من خلال الهجوم على المزاين



العنصرية الثقافية من خلال الهجوم على المزاين


     تعبر الثقافة الشعبية عن الحالة الإنسانية متمثلة في شكلها الجماعي وطريقة تعاطيها مع الحياة من جميع النواحي، ويتم التعبير عن هذه الثقافة الشعبية من خلال أشكال تعبيرية وسلوكية (حكاية- حكمة- شعر- رقصات- مناسبات- عادات.. الخ)، والجزيرة العربية منطقة غنية بإرث تاريخي ثري انعكس على الثقافة الشعبية فيها وموروثها. من ذلك الإرث الممتد عبر الإنسانية، كإحدى تماثلات الثقافة، عناية العربي وعلاقته الوطيدة بالإبل، وقد يبدو الحديث عن علاقة الإنسان العربي بالإبل نوع من المبالغة في زمن المادية وضبابية الحضارة وهشاشة الجذور الثقافية؛ مما أجدني فيه مضطرا لأن أستعرض بشكل موجز بعض معززات هذه العلاقة وصورها:

-         فالله سبحانه وتعالى خص الإبل بإبداع خلقة ومنّ على عباده بها وقرنها بعظيم إبداع خلق السماء والجبال والأرض (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ ‏رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ).
-         تعتبر الإبل في الفقه من نفائس الأموال.
-         وتعكس معاجم اللغة العربية طبيعة اهتمام العرب بالإبل من خلال اللغة؛ ففي حين لا تتجاوز عادة العرب في الجمع ثلاث مرات، نراهم أفردوا الإبل بكثرة الجموع (الجمل: تسع مرات- الناقة: إحدى عشرة مرة).
-         وتقول العرب: ما خلق الله خيرا من الإبل؛ إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت.
-         ونهى قيس بن عاصم بنيه في وصيته عن سب الإبل فقال: لا تسبوا الإبل فإنها رقوء الدم ومهر الكريمة.
-         وروى الأصمعي أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أعجبته ناقة ركبها فأنشد:
كأن راكبها غصن بمروحة ::: إذا تدلت به، أو شاربٌ ثملُ
ثم سكت واستغفر الله. يقول الأصمعي: فلا أدري أقاله أم تمثل به!

     وغيرها من صور العلاقة المتينة للعرب بالإبل والتي ما انقطعت يوما إلى زماننا هذا، بل أن الباحثين في التاريخ يرون علاقة العربي بالإبل امتدادا لعلاقة تاريخية قديمة قدم البشرية. وهذا الذي يجعلنا نفهم الصورة الحاضرة للاهتمام بالإبل في الجزيرة العربية عموما وفي السعودية خصوصا من خلال القنية والتربية والشعر ومؤخرا مهرجانات المزاين، إلا أن المضحك المبكي هو الهجوم الشرس على مهرجانات المزاين والسخرية من هذه الثقافة الشعبية، ومن المؤسف محاولة إلباس هذا الهجوم العبثي على هذا الموروث الشعبي مسوحا ثقافيا؛ فكان التحول من الثقافة الشعبية إلى الثقافة العنصرية!

     لعل الدكتور عبدالله الغذامي، سلمه الله، يسمح لي بإستخدام عباراته لتفكيك هذه الثقافة العنصرية؛ فالنسق المختبئ بين ثنايا محاولة الحياد في نقد المزاين يفضح عنصرية هذا الخطاب الثقافي، وبقراءة سريعة لما كتب من نقد للمزاين تجده منصبا على الصورة الكلية للمزاين من خلال صور جزئية سلبية غير منحصرة في المزاين كفعل جماعي، وبالتالي هو نقد للثقافة الصحراية التي أنتجت هذا الفعل الجماعي باعتباره سمة فارقة لها، بعبارة أخرى: نحن ننتقد أنفسنا وثقافتنا وطبيعة حياتنا! كثير من هذا النقد الثقافي العنصري هو وليد ساذج للنظرة الدونية للثقافة العربية المتمدنة، بصورتها المستنسخة من الثقافة المستعمرة، لكل المخرجات الثقافية القادمة من الصحراء! ولتوضيح هذه العنصرية الثقافية تجاه الثقافة الصحراية أقول: انظر في استعمال الإسراف والمبالغة في أسعار الإبل كحجة ظاهرية في نقد المزاين (الثقافة الصحراوية) لتجدها غائبة في وعي خطاب ثقافي معدوم لنقد الأسعار الخيالية للوح الفنية (الثقافة المتمدنة)! و تعبيرا عن خطاب نقد المزاين تجد مفردات ثقافية تحورت لتحمل دلالات سلبية تكشف عنصرية هذا الخطاب الثقافي وتردداته، فمفردات من مثل (أعراب- بدو) انتقلت من كونها وصوفا محايدة إلى أن أصبحت مترادفات هجومية عنصرية ]على سبيل المثال، نشر موضوع ينتقد مهرجان المزاين في منتدى هوامير البورصة بعنوان: توافد الأعراب على أم رقيبة في مزاين الإبل[!

     بل أن نسق هذه الثقافة العنصرية لم يكن بحاجة دوما للاحتماء خلف نقد أي سلوك سلبي لمهاجمة الثقافة الصحراية (المزاين) بل كشف نفسه، غير مرة، في مهاجمة هذا الموروث الثقافي المتمثل في العناية الفائقة بالإبل ]نشر أحد الفضلاء كاريكتور في تويتر يسخر من مفهوم جَمال الإبل، وعلق قائلا: لم أتصور أننا سنعيش ونرى تجمهرا للسعوديين حول هذه المزيونة، وبهذا اللبس الكاسي العاري، والتي صرنا بسببها مسخرة[!.

     ما أشرت إليه سابقا هو تسليط للضوء على هذه الثقافة العنصرية بصورتها الساذجة والمتسربة بشكل عفوي إلى خطاب نقد المزاين، وفي المقابل هنالك الثقافة العنصرية القاصدة للنيل من الثقافة الصحراوية، كما يمكن تحليل هذه الثقافة العنصرية من خلال تناولها بمعيار الميكرو والماكرو؛ إلا أنني أرى ما طرحت كافيا لدعوة الفضلاء للكتابة حول هذا الموضوع والخروج من الثقافة العنصرية (نقد المزاين) إلى الحفاظ على الثقافة الشعبية وتقدير الموروث الثقافي (المزاين) بمسارين متلازمين: مدح الإيجابي ونقد السلبي.

ودمتم سالمين،،

حتى أنت يا شكسبير..!!



حتى أنت يا شكسبير..!!

على هامش قضية الشيخ عائض القرني والأستاذة سلوى العضيدان


     ذكرني حكم وزارة الثقافة والإعلام السعودية، ممثلة بلجنة حقوق المؤلف، بثبوت سرقة الشيخ الدكتور عائض القرني من كتاب الأستاذة سلوى العضيدان بالشك في أن شكسبير، بكبره، ليس إلا منتحلا جهد غيره! ويبدو أن عام ٢٠١١ لم يكن فقط عاما سقطت فيه رؤوس سياسية، بل شملت بركاته المشايخ والأدباء والمثقفين كذلك؛ ففي أواخر عام ٢٠١١ أثار فيلم سينمائي من جديد قضية أن ويليام بن شكسبير، ما غيره، مجرد خدعة كبيرة! وتناولت وسائل الإعلام العالمية، مثل الجارديان والتلغراف والتايم ووسائل أخرى، طرح الفيلم بجدية وأعادت طرح النقاش حول شكسبير بنقد أكبر.

     الطرح المُشكك في حقيقة انتاج شكسبير لهذا الإرث الأدبي يزعم أن شكسبير مجرد محتال آخر، ويستند في ادعائه على عدة محاور وثغرات في سيرة شكسبير، ويقدم المشككون تساؤلات وجيهة ومثيرة في آن معا، منها:

‌أ.        لم يقدم شكسبير نفسه خلال حياته على أنه أديب، كما لم يعرفه أحد أثنائها بهذه الصفة كذلك! وأول ظهور لشخصيته الأدبية كان عام ١٦٢٣ ، أي بعد وفاته ب٧ سنوات!
‌ب.    لم يُعثر ولا توجد أي مخطوطة أدبية بيد شكسبير؛ لا مسرحية، لا قصيدة، ولا حتى رسالة! بل لا يوجد أحد ثبتت مقابلته للأديب شكسبير في لندن أثناء مدة اقامته فيها كشاعر وفنان!
‌ج.    حسب سيرة شكسبير فقد ولد عام 1564 في مدينة سترتفورد وعاش فيها لمدة تزيد عن 26 سنة، تزوج خلالها وأنجب ثلاث أبناء، لكن سيرته تحصر انتاجه الأدبي بعد ذلك في فترة عيشه "وحيدا" في لندن!
‌د.      تزعم سيرة شكسبير أنه تقاعد من عمله الفني في لندن وعاد لمدينته سترتفورد في سن الثامنة والأربعين، الغريب أنه لم يقدم أي انتاج أدبي هناك كذلك!
‌ه.      الثابت أن شكسبير، ابن المزارع البسيط والتعليم العام المحدود، ليس بالأرستقراطي ولم يخالط أحدا من أبناء هذه الطبقة؛ فأنّى له هذه المعرفة الغزيرة بحياتهم وثقافتهم في مسرحياته؟ وكيف تسنى لابن الريف التعرف على المدن الأوربية والثقافات الأخرى مما سمح له تصويرها بشكل دقيق في أدبه؟
‌و.     الكتابة الوحيدة التي عثرت بخط اليد ويعتقد أنها لشكسبير كانت عبارة عن "توقيع" في دفتر للنزلاء في إحدى فنادق لندن، في الفترة الي أقامها فيها، وكانت بخط رديء يكشف تعثر صاحبه في تهجئة اسمه بشكل صحيح!
‌ز.      لا شك أن أعظم الأدب يكون نتاجا للتجربة الإنسانية ومعاناة الأديب؛ فلماذا لم يكتب شكسبير، ولو بيتا واحدا، عن وفاة طفله وهو في عمر الحادية عشر!
‌ح.    الانتاج الفني للأديب من أهم إرثه المادي والمعنوي، لكن شكسبير لم يتطرق لأدبه البتة في وصيته، لكنه في المقابل نص في وصيته على أن يكون السرير، وهو ثاني أفضل سرير لديه، من نصيب زوجته!

     وبعد هذه الثغرات، وغيرها، نجد أنفسنا أما سؤال جاد مفاده: (من هو المؤلف الحقيقي لكل هذه القصائد والمسرحيات والأدب العميق؟)، تدور التكهنات حول شخصيتين عاصرتا شكسبير، وهما؛ الشاعر كرستفور مارلو أو النبيل إدوارد دي فيري، وتعتمد هذه التكهنات على عدة تحاليل، إلا أنني أظن أنه لا أحد أقدر من لجنة حقوق المؤلف بوزارة الثقافة والإعلام السعودية على كشف الحقيقة للجمهور العالمي هذه المرة!.

     نعم، شكوك كثيرة طرحت حول شكسبير هل هو قلم مستعار أم مجرد سارق؛ لكن فحوى كلام الدكتور عائض القرني، في رسالته الأخيرة للأستاذة العضيدان بعد ثبوت السرقة، تقول (وماذا إذا؟! فحتى ابن تيمية نسب لنفسه ما ليس له..!!)

ودمتم سالمين،،


موجة لبرلة الإسلام




على هامش اللقاء الثقافي الأول- 4
"يونيو 2011"

موجة لبرلة الإسلام


     في ثلاث مقالات سابقة قيدت ما جال في خاطري أثناء اللقاء الثقافي الأول الذي نظمه مركز الفكر المعاصر برئاسة الدكتور ناصر الحنيني- وفي رواية ضعيفة لأحد المداخلين الدكتور عبدالرحيم السلمي- بمدينة الرياض، ولما وصل بي سير الخاطر إلى ورقة الأستاذ أبي عمر، إبراهيم السكران- وفقه الله- رجحت الاكتفاء بالمقالات الثلاث السابقة لبعض الاعتبارات، أهمها: أن بعض المتابعين لشأن الفكر الإسلامي في السعودية يرون في الأستاذ السكران انتقاله الحاد من اليسار إلى اليمين، وأن هذه النقلة تؤثر فيها العاطفة الفكرية التي تنخز صاحبها ليكفر عن طرحه السابق بطرحه اللاحق، على اعتبار أن الفكر السابق مما تجب "البراءة" منه عند كل المتحولين فكريا، وبغض النظر عن ما في هذا التحليل من الحق والباطل؛ ارتأيت أنه من الأولى التأني في التعاطي النقدي مع اطروحات أخي الأستاذ السكران، الذي أدعوه وأدعو الله لي وله أن يتحرى الحق جهده ولا يأبه بما قيل ويقال وسيقال. ومما شجعني للعودة للكتابة أمران: الأول، دعوة الدكتور أبي أسامة، عبدالعزيز قاسم، وفقه الله، عميد مجموعة القاسم البريدية وملك ملوك أفريقيا، باعتبار تعلقه الدائم بالنجاشي والذي أبرأه من التعلق الديني الصوفي فلم يبقى إلا التعلق السياسي! والأمر الثاني، تعقيب الدكتور عبدالوهاب الصالحي- وفقه الله- على مقال للأستاذ السكران، فقلت لعل مريدي الأستاذ السكران ينشغلون بصب جام غضبتهم عليه وأن أخرج سالما من تعرضي له!.

     يمكن تقسيم ورقة الأستاذ السكران إلى ثلاثة أجزاء، بعض الأخوة الظرفاء الأذكياء يقول أنني أعاني من تثليث فكري! فكل شيء عندي له ثلاثة أبعاد حتى أصحابي على طاولة الاستماع كانوا ثلاثة؛ الجزء الأول كان استعراض تاريخي "لكوكتيل" الفكر الإسلامي (يسارية إسلامية، قومية إسلامية، ديموقراطية إسلامية)، الجزء الثاني تأكيد على وجود تيار ما يسمى "بالليبرالية الإسلامية"، والجزء الثالث استعراض سريع لبعض القضايا التي يُعرف بها تيار الليبرالية الإسلامية! في رأيي أن لو سميت الورقة (حول الليبرالية الإسلامية) لكان أقرب لمادتها؛ حيث أن العنوان يوحي بأن الورقة متعلقة بتحليل الفكر (بداياته، منهجه، أفكاره، أهدافه، آلاته، منطلقاته... الخ)، إلا أن الورقة، على قيمتها، لا تعدو أن تكون تجييش العاطفة الفكرية ضد ما يسمى بتيار الليبرالية الإسلامية من خلال ربطها التاريخي بتيارات فكرية باءت بالفشل (كاليسار الإسلامي والقومية الإسلامية)، وإعجاب الكتاب الغربيين بهذا التيار ودعمه، وانتقاء آراء فكرية مرفوضة لتيار الليبرالية الإسلامية لتكون سمة لذلك التيار.

     أبرز ما يمتاز به الليبراليون الإسلاميون أنهم يوافقون الغرب في اختياراتهم الفكرية، وقد وافق الأستاذ السكران الكتابات الغربية في تسمية هذا التيار بالليبرالية الإسلامية، وقد جعل هذه الموافقة هي أداة هذا التيار في قراءة التراث الإسلامي والانتقاء منه والترجيح بينه، ولم يبين الأستاذ السكران كيف حرر هذه الميزة؟ هل وجد لهم نصا في ذلك؟ أم كان من خلال استقراءه الشخصي وتتبعه لجميع اطروحاتهم ومقارنتها بأفكار الليبرالية الغربية مع عدم وجود أي عامل مشترك آخر؟ مثاله حد الردة الذي طرحه الأستاذ السكران في العلامات الفارقة لهذا التيار؛ فكيف تتم دراسة رأي هذا التيار في حد الردة ورأيه في القصاص من القاتل؟ حيث أن الليبرالية الغربية تقدس الحياة وترفض عقوبة الإعدام تحت أي مسمى، في حين أن الليبراليين الإسلاميين، كما يسميهم الأستاذ السكران، لا يقولون برفض حد القصاص من القاتل! وقد يعترض البعض على هذا المثال بأن موافقة هذا التيار لليبرالية الغربية هو من باب حرية الفكر فأقول قد يكون، إلا أن الليبرالية الغربية تجرم بعض الأفكار، على اعتبار آثارها المحتملة، كمعادة السامية والفاشية النازية؛ فرفض الليبرالية الغربية لحدة الردة الإسلامي هو حرية الفكر إضافة لرفض عقوبة الإعدام لأي فكر معتنق في حال تجريمه! فهل وافقهم الليبراليون الإسلاميون في بعض وكفروا ببعض؟ هذا يعني أن موافقة هذا التيار لليبرالية الغربية ليست سمة مطلقة!

     جزء كبير من هذا التحليل لهذا التيار يقوم على أساس القصد والدخول في النوايا، وهو ما أشار له الدكتور وليد الهويريني- وفقه الله- في مداخلته، والذي أعتقده أن الأستاذ السكران بنى استعراضه لهذا التيار على التجربة الفردية والمعاشرة الشخصية أبان تبنيه لهذا الفكر، وهذا منهج لا يمكن الوثوق بعمليته حتى وإن أصاب في حالات كثيرة، فالتجارب الحياتية يعتريها كثير من الشخصنة تفقدها موضوعيتها، فأنا أستطيع أن أقول بناءا على تجربتي الشخصية مع بعض رموز هذا التيار والزملاء المشتركين بيني وبين الأستاذ السكران أن هدفهم هو مخالفة التيار السلفي "المحافظ" أكثر من موافقة الفكري الغربي! إلا أنني أعلم أن هذا التعميم مخل بالموضوعية ولا يمكن الاعتماد عليه حتى وإن انجر تطبيقه على جميع ما ذكر الأستاذ السكران في ورقته من أمثلة لبعض القضايا التي يعلي بها الليبراليون الإسلاميون عقريتهم أو يعتلونها.

ودمتم سالمين..

الاستعلاء اليقيني



على هامش اللقاء الثقافي الأول- 3
"يونيو 2011"

الاستعلاء اليقيني


     بعد إنتهاء محاضرة الشيخ الدكتور سعد العتيبي، وفقه الله، "حول" النظرية السياسية الإسلامية، رأيت الشيخ بندر الشويقي، سلمه الله، فابتدرته بالسلام والسؤال عن ورقته للغد بعنوان (الاستعلاء اليقيني) عن أيشٍ هي "حوله"؟! فابتسم وأجاب بما معناه أنه يفضل أن يجعل العنوان مغلقا بعموميته إلى موعد الكشف عن محتواه في الغد، وفاتني أن أبارك له حصوله على درجة الدكتوراة التي سررت لما رأيت "دالها" تزدان قبل إسمه، إلا أنني لم أرد أن أعطل الشيخ عن إكمال مشيه لقصده أو أن أتعطل أنا عن "مناشبتي" لمن رأيت من المشايخ والأفاضل الكرام الذين يعلم الله مدى سروري بالاجتماع بهم من جديد.

     الدكتور بندر، وفقه الله، علم على رأسه نار، قارئ مطلع، سلفي بجدارة، عقدي متمكن، ذو بشاشة ولين جانب إلا أنه يتعصب للمنهجية والعلمية في طرحه ونقاشاته؛ فالذي أعرفه عنه منذ زمن بعيد أنه يرحب بالاختلاف معه ويتسع صدره لذلك، إلا أنه يضيق بالمهاترات خارج إطار البحث العلمي. قد تكون كلماتي السابقة سيرا على مداراة الدكتور أبي أسامة عبدالعزيز قاسم لأحبابه السلفيين خشية غضبتهم، إلا أنها شهادة حق أسجلها للدكتور بندر قبل طرق بعض النقاط التي اختلفت فيها معه "حول" ورقة (الاستعلاء اليقيني).

     تحدثت وأصحابي على الطاولة، الثالثة الذين خلفهم حظهم للجلوس معي على طاولة الاستماع، عن توقعاتنا عن موضوع الورقة فكنا مجمعين على ظننا بأنها متعلقة بضرورة عرض الحق من منطلق الاعتزاز به ويقينية صوابه، طبعا إجماع صاحبي الثالث منهم كان من قبيل الإجماع السكوتي! فكان ما توقعناه صحيح حول محتوى الورقة مع عرض مطول لمعاني الاستعلاء واليقين وصور لبعض المسائل اليقينية التي ضعف عن الاستعلاء بها بعض الإسلاميين! إلى هنا كلام جميل ومحل اتفاق، إلا أن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، وهو ما حاول بعض المداخلين استثارت المحاضر للحديث عن بعضها؛ من مثل متى يكون "اليقين" يقينا ملازما للاستعلاء؟ وماذا عن الشعرة الفاصلة بين اليقينيات والظنيات؟ وهل الاستعلاء يشمل تطبيقه على جميع المدارس الفكرية والعلمية داخل وخارج الإطار الإسلامي؟ أسئلة مطروحة وشبيهاتها لم تطرح تركها الشيخ بندر، في ظني، بلا فاصل جواب.

     من نافل القول أن العلماء يتناولون الأدلة الشرعية بمعيار يقيني يتعلق بمدى ثبوتها ودلالتها، أو ما تعارف عليه بالقطعي والظني، فاليقين بدلالة الظني ليست كما اليقين بدلالة القطعي ولا شك! ولمعالي الشيخ سعد الشثري، وفقه الله، فيما أذكر كتابا حول القطع والظن عند الأصوليين. ويمكن تقسيم مدى قطعية وظنية الأدلة الشرعية من حيث الدلالة إلى قسمين: العقيدة وفقه؛ فالقسم الأول غالب أدلته قطعية الدلالة، أما القسم الثاني فغالب أدلته ظنية الدلالة. ومن هنا نفهم إحدى أسباب اختلاف الفقهاء فيما بينهم وانقسام الفقه الإسلامي في محصلته إلى أربع مذاهب رئيسة! والعقيدة الإسلامية بلا ريب ترجح في ميزان الأهمية واليقين وإن كانت مسائلها أقل بكثير من مسائل الفقه، أي أن العقيدة في حجم المسائل أقل وفي حجم الأهمية أكثر مقارنة بالفقه. لكن ما المراد من هذا الحديث؟ مرادي، أيتها السيدات والسادة، أن حجم مسائل اليقين في الشريعة وإن كانت تحتل مكانة كبيرة إلا أنها في العدد الكلي لمسائل الشريعة قليلة! فلكم أن تتخيلوا حجم مسائل الإتفاق في الفقه مقارنة بمسائل الاختلاف التي يترتب عليها حل وحرمة، ثواب وعقاب، صحة وفساد وبطلان، دماء وأبضاع وأموال! أنا أجزم أن الشيخ بندر لا يقصد بحديثه عن (الاستعلاء اليقيني) مسائل الخلاف والظن التي يرى كل فريق أنه "متيقن" من حكمه فيها، لكن الإشكال في تعامل كثير مع هذه المسائل من منطلق (الاستعلاء اليقني)، ومن هنا نفهم الدماء التي جرت بين أصحاب المذاهب الفقهية في فترة زمانية غابرة بسبب هذا الاستعلاء!

     أرى وجوب ربط مثل هذه الأطروحات، وإن كانت تحمل من الصواب أوجه، بمفاهيم موزاية لا انفكاك بينهم كالبحث والحياد والتواضع والعذر، وأذكر في هذا الجانب ما يروى عن الإمام أحمد أنه قال: (من ادعى الإجماع فهو كاذب) وتوجيه قول الإمام أنه أراد كسر ورد من جاء ليستعلي بالإجماع في مسائل الخلاف! فكونك تدافع عن اليقين الذي لديك في مسائل الخلاف الكثيرة لا يعني أن تستعلي بالباطل على من سواك؛ سواءا كان هذا الباطل كذبا كإدعاء إجماعٍ غير موجود أو احتكارا للحقيقة! ويحكى عن الشعبي قوله: (العلم ثلاثة أشبار: فمن نال شبراً منه شمخ بأنفه، وظن أنَّه نال كل العلم، ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه، وعلم أن هنالك علما لا يعلمه، وأما الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحد!) وقيل (من نال الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئا!). ومن الواقع المعاصر فلا أظن أحدا من طلبة الإمام عبدالعزيز بن باز، قدس الله سره، يخالف في مدى استعلائه باليقينيات الشرعية، وأذكر أنه رحمه الله في إحدى مجالسه ناقشه بعض الطلبة في مسألة من مسائل العقيدة فغضب الشيخ، وهو الحليم، وقال: (قولوا سمعنا وأطعنا، قولوا سمعنا وأطعنا)، إلا أنه في المقابل من أكثر أهل العلم من تتردد على لسانه عبارات من مثل (لا أدري) (الله أعلم) (الأمر واسع) (تحتاج إلى نظر) ومثيلاتها كثير في بعض المسائل الفقهية اليسيرة التي لا يتردد بعض طلبة العلم في زماننا هذا من الجزم فيها و(الاستعلاء اليقيني) على سواه! بل إن بعض الفضلاء سمعته مرة يتحدث عن القول بأن عورة المرأة أمام المرأة هي من السرة إلى الركبة ويقول: (بعض طلاب العلم يفتي بهذه الفتوى المؤسفة! وهذا خطأ، والحقيقة سبق أن بينتها ..الخ) أرأيت كيف يستخدم البعض "الاستعلاء اليقيني" في مسألة خلافية يقول بها الإمام ابن باز، رحمه الله، ويحتكر الحقيقة لنفسه!.

ودمتم سالمين..

الانفتاح المعرفي



على هامش اللقاء الثقافي الأول- 2
"يونيو 2011"

الانفتاح المعرفي


     جمعني اللقاء الثقافي الأول على طاولة الإستماع بثلاث إخوة أفاضل: أحدهم من مدينة الظهران والثاني من ينبع والثالث كان أندرنا حديثا! حاولت أن أثير حوارا على طاولتنا لنخرج بأكبر فائدة ممكنة لهذا اللقاء بعد انتهاء "المحاضرة" الثانية حول (القيم والتحديات المعاصرة) للدكتور عبدالله العمرو، وفقه الله، والتي تبدو أنها أكثر ورقة فهمها الحاضرون كلٌ على مراده وحسبه! في الجلسة الثالثة كان الدكتور عبدالرحيم السلمي، وفقه الله، يبدأ حديثه عن (الانفتاح المعرفي) داعيا الحضور لمزيد من التفاعل والنقاش، ومن ثم سار الدكتور السلمي بطريقة موازنة بين الواقع المنغلق فكريا والمنفتح معرفيا ليرسم خطوطا عريضة يمكن تطبيقها بشكل شخصي مختلف عن الآخرين. وفي العموم فموضوع الانفتاح والانغلاق تتم ملامسته ومعالجته على بعدين: مجتمعي وفردي، وكثير من المتحدثين عن موضوع الانفتاح يتناوله بشكل فردي أو جماعي، على اعتبار جماعة ما مكونة من عدة أفراد يتناولهم الحديث بالخصوص، وليس عن المجتمع بعقله الجمعي.

     من الظاهر في مجتمعنا السعودي، بشكل لافت وخاص، ارتفاع الصوت في الدعوة للانغلاق! وأكبر مثال كاشف له في هذه الفترة هو انتقاد حركة الابتعاث الدراسي، حتى أصبح بعض المبتعثين يخشى أن يتغير تصنيفه أو أن تقل درجة موثوقيته إن صرح بأنه طالب مبتعث! بل إن عددا يعكس رؤية منغلقة أصبح يتندر بشيوع توصيفات مثل (باحث- طالب دراسات عليا)، وهي المفردات التي تحمل في جوهرها الانفتاح حيث يفتح الباحثُ المغلقَ ليجد، وليبحث الطالب في الدراسات فينال العليا! بما أن هذه هي حال البعض، ونتيجة لدعاوي الإنغلاق الفكري والمعرفي ظهرت أدبيات مغايرة تتحدث عن الانفتاح، والذي أعتقده أنه كان من الأولى توجيه الحديث عن ذم الإنغلاق لسببين؛ الأول: أن حديث أي شخص عن أهمية "التبييض" واللون الأبيض يوحي بمدى انشغاله بالسواد! أي أن البعد النفسي للحديث عن الانفتاح يُكسِبُ الانغلاق إضافةً لدرجة تأثيره ومساحته في المجتمع؛ وهذا التأثير وإن لم يكن له ما يؤيده على أرض الواقع إلا أنه يحقق اقترابه من مكانة السمة الأصيلة بالدعوة لما يعارضه، فأنت حينئذ حقيقة تنطلق من أن الانغلاق هو القاعدة وأن الانفتاح طارئ ملح! وهذا يقودني للسبب الثاني: هل الانفتاح طارئ على مجتمعنا وثقافتنا؟

     تستند دعاوى الانغلاق على مفردات شرعية تحاول من خلالها إثبات أنها سمة أصيلة للثقافة والمجتمع الإسلامي، كالحديث الذي رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب! والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي) لما رأى مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كتابا أصابه من أهل الكتاب، لكن هذا الحديث يقابله حديث زيد بن ثابت، رضي الله عنه، كما عند البخاري وأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأن يتعلم لغة يهود! فأين هو الخاص في دلالته وأين هو العام؟ الذي أزعمه أن الانفتاح هو السمة الأصيلة للثقافة والمجتمع المسلم، ويدل عليه التراث الإسلامي عبر مر العصور ابتداءا بعصر النبوة على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تسليم، فالحديث المشهور: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) كما عند البخاري وأحمد وأبي داوود، وعند أحمد والدارمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشد أبيات لأمية بن أبي الصلت فقال: (صدق)، وفي الحديث المتفق عليه أن رسول الله ضحك موافقا لما سمع خبر اليهودي: (إن الله يمسك السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، والخلائق على إصبع ، ثم يقول : أنا الملك)، وفي الحديث المتفق عليه أن عائشة نقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خبر اليهوديتين في عذاب القبر فصدقهما، ومثله كثيرٌ كثير في حال المقام الشريف، صلوات ربي وسلامه عليه، من الانفتاح سلوكا وتطبيقا، بل إن المولى جل في علاه قد ذم الإنغلاق وأن من لم يستفد من حواسه فهو كالأنعام (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) الأعراف/ 179، بل من لطيف ما قرأت يوما أن الإيمان بالغيب الذي يجب على المؤمن لا يكون إلا بالإنفتاح على الميتافيزيقيا. وأنا هنا أتحدث عن الإنفتاح كسمة للمجتمع المسلم لم يتخلى عنها في يوم، بل كان الإنفتاح طريقه لسماع الهدى والإيمان به؛ فالإنفتاح سلوك وطريق إلى المعرفة والفكر، أما قبول تلك المعرفة وتبني ذلك الفكر فهذا موضوع آخر.

     كما أشرت في السابق من أن الإنفتاح هو الأصل وأن الإنغلاق هو الطارئ، والدعاوي إلى الإنفتاح لم تكن فقط كردة فعل على دعوة الإنغلاق، بل نتجت كإحدى الصور السلبية لبتر المعرفة عن سياقاتها ونقلها من مجتمعاتها الأصلية إلينا؛ فالإنفتاح هو في أصله فكرة ناشئة في المجتمع الغربي المنغلق أو كما يسميهم بعضهم openness to otherness، فالمجتمع الغربي في عمومه مجتمع منغلق على نفسه من الطراز الأول، وكانت دعوى الإنفتاح موجهة إليه ونابعة عنه، وهي وإن لم تنجح في بداياتها فإنها لن تزال رهينة الفشل في مستقبلها، فالغرب اليوم أشد وثوقا من أن ذاته القائمة تحافظ على نفسها بتعصبها وانغلاقها على ذاتها، وأنه متى ما انفتح على الآخرين فإن مصيره إلى الذوبان، ومن هنا تفهم كيف اكتسحت البوذية الساذجة عقول كثير من الغربيين الذين غامروا بالانفتاح! ومن هنا يتضح لنا أيضا سذاجة الطرح القائل بأن الغرب منفتح على الآخر من خلال صور مستهدفة في ذاتها، كتدريس فلسفة ابن سينا أو فكر ابن خلدون في بعض الجامعات الغربية، وليس سرا أن الفرد الغربي اليوم لا يرى أبعد من أنفه!

     إن الإنفتاح المعرفي، إضافة لكونه سمة لمجتمعنا، هو أداة رئيسة في نشر الحق والدعوة إليه، ومن التسطيح ربط الإنفتاح بالتلقي فقط بلهٍ عن القبول المطلق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أنه قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل؛ عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)، وهل يبلغ هذا الدين مبلغه إلا بالإنفتاح؟!

ودمتم سالمين..

النظرية السياسية الإسلامية



على هامش اللقاء الثقافي الأول- 1
"يونيو 2011"

النظرية السياسية الإسلامية



     لا تختلف درجة الحرارة المرتفعة في العربية السعودية عن حرارة الاختلاف الفكري داخل ذات الجغرافية، وكنت أظن أن اللقاء الثقافي الأول الذي نظمه مركز الفكر المعاصرفي العاصمة الرياض سيعمل على تلطيف تلك الحرارة؛ إلا أن الحرارتين (الجوية والفكرية) كانت بذات الارتفاع داخل أروقة اللقاء كما هي خارجه! شهادة حق يجب أن أسجلها، والحق أحق أن يتبع، أنني ظننت أن مركز الفكر المعاصر، ممثلا في رئيسه الدكتور ناصر الحنيني، سيدعم طرح رؤية أحادية في اللقاء من منطلق اجتهاده الذي يراه صائبا، وهو مأجور عليه، وأن المحاضرين سيشاغبونه في العموم ،عدا الأستاذ السكران، إلا أن المفاجئة أن الدكتور الحنيني طالب أكثر من مرة بالحوار والنقاش مع المحاضرين والرؤى المطرحة، أحادية الجانب وأحادييه! وأيده في ذلك ودفع إليه الدكتور عبدالرحيم السلمي في ورقته بشأن الانفتاح المعرفي، والتي أنوي الكتابة عنها في المقال القادم إن شاء الله.

     أولى "المحاضرات" كانت للدكتور سعد العتيبي بعنوان (النظرية السياسية الإسلامية)، غير أن المحاضر وفقه الله استغرق ثلث المحاضرة في الحديث عن "تأصيل" المعرفة، حتى أنني بعد مضي نصف ساعة من المحاضرة التفت إلى الجالسين إلى نفس الطاولة وسألتهم: هل غيروا موضوع الورقة؟ فابتسم أحدهم وأجاب: لا، هي النظرية السياسية الإسلامية! والثلث الثاني من المحاضرة أن الإسلام تناول الشأن السياسي!! وثالث الأثلاث عن تراث الفكر السلفي في السياسة الإسلامية!!! لا شك أن الموضوع حساس ومهم وبحاجة كبيرة إلى البحث، والدكتور سعد، بحكم تخصصه في السياسة الشرعية، كان الظن به أنه من أجدر من يتحدث عنه، لكن لعل له عذر ونحن نلومه في عدم الحديث عن النظرية السياسية الإسلامية في محاضرة النظرية السياسية الإسلامية!

     السياسة الإسلامية نظريات وليست نظرية واحدة، وتنوع النظريات السياسية الإسلامية له ارتباط وثيق بآليات المعرفة الإسلامية ومنتجاتها، بل أن الباحث في نشأة الفرق العقدية يجد تداخل كبير بين الفكر السياسي والعقدي إلى درجة أن تساؤلاً يطرح نفسه بشكل جوهري: هل الاختلاف العقدي المبكر نشأ عن فكرة سياسية؟ أم أن النظريات السياسية الإسلامية تولّدت نتيجة لاختلاف الفكر العقدي؟مثاله علاقة الاعتزال العقدي بالحالة السياسية السابقة والمعايشة لظهوره ولآثاره اللاحقة سياسيا. ولو تناولنا نشأة الخوارج، كمثال ثان، من منظور سياسي لوجدنا أن هذه الفرقة العقدية، وما تفرع عنها، حورت عقيدتها لتتوافق مع رفضها للحل السياسي في "التحكيم" الذي دعا إليه معاوية وقبله علي، رضي الله عن الجميع! ولا يمكننا القول أن رفض الخوارج للتحكيم كان بسبب العقيدة وذلك لأن من أهل السنة، كما يروى عن الحسن البصري في الكامل للمبرد، من رفض تحكيم علي على أساس سياسي لا عقدي. وهذه علاقة دقيقة قد لا يتفطن لها بعض الفضلاء فيرفض خلط السياسة بالعقيدة، في حين أن آخرين يستخدمون العقيدة فقط في تحليل السياسة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميمُ، والصحيح أن مساري السياسة والعقيدة في الشأن السياسي متلازمان كفرسي رهان. ولدقيق هذا الاختصاص، أعني نظريات السياسة الإسلامية، وندرة أصحابه كما أشار الدكتور سعد حدث خلط كبير في الحديث عنه، بل أن أحد المداخلين أشار بتناول موضوع السياسة الإسلامية على أساس تقسيم فقهي محض! وصدق الحالُ المقالَ (عش رجباً ترى عجباً)؛ أفلا يعلم صاحبنا أن الفقهاء وإن اتفقوا في المذهب الفقهي فإنهم يختلفون في العقيدة، وإن اتفقوا في العقيدة فإنهم يختلفون في المذاهب الفقهية؟! لذلك ترى تباينا في أقوال الفقهاء داخل المذهب الواحد في بعض المسائل السياسية التي تناولوها بشكل فقهي نتيجة لاختلافهم العقدي! ومبحث الفقه السياسي في كتب الفقه من أميز ما يتم التعرف به على معتقد الفقيه.

     التراث الإسلامي، في غالبه، تناول السياسة من الناحية العلمية بشكل متأخر عن بقية العلوم الأخرى، وفي ظني أن هذا التأخر نشأ كسبب رئيس للفترة الزمنية التي احتاجتها السياسة كعلم للانتقال من الثقافتين الفارسية واللاتينية إلى العربية الإسلامية، لذا تجد أن كتابة المتأخرين من الفقهاء في السياسة أنضج وأعمق من المتقدمين على خلاف العلوم الإسلامية الأخرى! وملحوظة أخرى بشأن التراث الإسلامي المتعلق بالسياسة أن غالبه وإن كان يتناول السياسة إلا أنه يندرج تحت حقول معرفية أخرى مثل العقيدة والفقه والإدارة؛ فأنت تجد أن العقائديين يطرحون موضوع الإمامة السياسي من ناحية عقدية تعنى بتشكيل الذات وقولبة الآخر. أما الفقه الإسلامي فالأمثلة فيه أغزر؛ فالفقهاء كان تصويرهم للسياسة متعلقاً بتنزيل الأحكام التكليفية على تطبيقاتها. وقد يفاجئ البعض أن الماوردي، رحمه الله، كان تراثه في المجمل متعلق بالإدارة السياسية أكثر من كونه متعلق بذات السياسة ونظرياتها. السياسة كعلم ذات ارتباط وثيق بالواقع ولا يمكن التحدث عنها بشكل منفصل عنه، سواءا لتأصيله أو نقضه، وهذا لا إشكال فيه؛ فكل العلوم لها ارتباطها بالواقع بشكل أو بآخر، إلا أن المشكل في ارتباط السياسة كعلم بالواقع هو مدى وقوعها تحت تأثيره أو تحررها منه! ومثالا على ذلك تجد أن بعض الفقهاء تناول موضوعا سياسيا كمعارضة الحاكم تحت تأثير الواقع فحاول تنزيل هذا الواقع على النص لا العكس؛ فتجد أن إماما كإبن قدامة المقدسي رحمه الله يستدل على أن معارضة الحاكم هي بغيٌ يقاتلون عليه بقوله تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) الحجرات/ 9، في حين أن شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، يقرر أن هذه الآية خارج محل النزاع ولا علاقة لها بمعارضة الحاكم أو الخروج عليه من قريب ولا بعيد! وهذا التأثر بالواقع انتقل عبر التاريخ في معالجة المواضيع السياسية إلى العصر الحاضر.

     غالب أبحاث السياسة الإسلامية المعاصرة متشابهة في تأثرها بالواقع في منطلقاتها، وكذلك في تناولها للموضوعات؛ فالشورى كحلم يراود الإسلاميين في منامهم ويقظتهم ناتج عن الديكتاتورية والأثرة في الحكم في الواقع المرير وليس نتاجا للنصوص الجمة التي يزعمونها أو الممارسات الطويلة التي يتغنون بها بناء على بعض الصور التاريخية التي ينقلونها بشكل مجتزأ! وقد يتفهّم أحدنا الاتهام الذي يُرمى به الإسلاميون بأن الشورى التي يطالبون بها هي شعار أكثر من كونها حقيقة يعتقدونها إذا ما نظرنا إلى واقعهم الصادم والديكتاتوري في ممارساتهم التنظيمية! فكم هي نسبة المؤسسات الإسلامية التي تمارس الشورى وتلتزم بها داخل بنيتها الإدارية؟ وما هي المؤسسات الإسلامية التي تستعمل "الانتخاب" كأداة حديثة من أدوات الشورى في هرميتها وقراراتها؟! لا شك أن الواقع صادم ومؤثر في مفرزاته العلمية والعملية ومنها السياسة الإسلامية! ومن ركائز النظرية السياسية الإسلامية في القديم والحديث مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، بل إن ابن تيمية رحمه الله يجعل مدار السياسة الإسلامية على هذا المبدأ، لكن يجب أن نفرق بين هذا المبدأ بمفهومه العام عند ابن تيمية وبين الواقع السياسي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند بعض الإسلاميين المعاصريين، والذي أشبه ما يكون اليوم بقول عبدالله بن سبأ البارحة يوم قال: (أكثروا الطعن في أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)!

     إن النظرية السياسية الإسلامية اليوم بحاجة إلى عميق بحث ودقيق تمحيص وحيادية في الاستنتاج والتحليل، وتناول يشمل الايديولجيا والسيسولوجيا ويفكك البنية المؤسساتية لها ويكشف شرعيتها ومشروعيتها على ضوء النصوص مجتمعة، موازنا بين الديني والدنيوي، والأصلي والمصلحي، والثابت والمرحلي.

ودمتم سالمين..