14 يوليو 2010

من وراء الكلمات..!!

من وراء الكلمات..!!


إن قراءة الكلمات وتفكيك الجمل والتعامل مع ظاهر العبارات عملية بسيطة يقدر عليها طلاب المدارس، لكن الأمر الذي يحتاج إلى جهد ومعرفة هو استقراء النص بجملته والتعرف إلى مفرداته غير المكتوبة وسبر معانيه وتحليلها. وبين هاتين العمليتين يصطف غالب المتلقين في صفين؛ فنجد الفريق الأول يتشعب إلى سذاجة التلقي بشقيه: محسن الظن ومسيئه! 

فالأول تغريه سلامة الكلمات وبراءة العبارات؛ فيسهل التلاعب به بالألفاظ وتمرير الأهداف من خلاله. والثاني يركز على المفردات المكتوبة ويغفل المراد ما لم يكن منصوصا عليه؛ فلا يعنيه المعنى الأصلي وينشغل باصطياد الكلمات الموهمة بسنارة الجرح! 

على النقيض من هذا الفريق نجد آخرين منقسمين بدورهم إلى من يعامل النص كطلاسم سحرية لا يملك إلا واضعها فكها؛ فلكل متناول للنص قدرته على وضع معنى خاص به بغض النظر عن الساحر الأصلي، فلا مجال للصواب والخطأ فيه! وآخرين يقدسون مراد النص بغض النظر عن الخطاب الموصل إليه، فالمهم أن الهدف يبدو جميلا والمغزى خلاب؛ فهي ميكفاليية ثقافية! 
برأيي، فإن التعامل النقدي مع النص يجب أن يكون موازنا بين المفردات والتراكيب وبين المعاني والأهداف؛ إضافة إلى الأبعاد الزمنية والمكانية والشخصية للنص، وهذا يبين لنا صعوبة العمل النقدي؛ ففرق بين أن تقرأ النص وأن تنقده! 

فقراءة نص شعري تعني الاستمتاع بتصويراته والتلذذ بموسيقاه ورؤية مشاهده، لكن نقد النص الشعري يحتاج إلى أكثر من مجرد ما سبق، فلا يعني القارئُ المجردُ الموازنةَ بين مدخل القصيدة وموضوعها وخاتمتها، كما لا يهمه معرفة القصيدة في أي مدرسة تخرجت: الكلاسيكية أو الرومنسية أو الواقعية! 

وكذا يتعلق الأمر في قراءة فتوى شرعية؛ فالقارئ المجرّد يهمه استدلال المفتي ومعرفة الحكم الشرعي الذي يقول به المفتي، ولا يعنيه على أي مذهب خرّج المفتي استدلاله أو ما هي أصوله التي تعامل فيها مع النص، وفي مثال الفتوى الشرعية نستطيع أن نلحظ التداخل بين عمليتي القراءة والاستقراء "النقد" في ردود الكثير على بعض الفتاوى التي يختلفون فيها مع أصحابها؛ فنقد الفتوى لا يكون فقط بقراءتها ومن ثم إيراد دليل معارض لها، أو تأويل مختلف لنفس الدليل الذي استدل بها صاحب الفتوى المُنتقدة، فغالب المفتين في هذه الأزمنة لا يغيب عنهم الدليل المعارض أو التأويل المخالف، بل يحتاج الناقد لما هو أعمق من هذه الظاهرية القرائية في التعامل مع النص: من إعمال الأصول والقواعد، واستخراج أوجه الاستدلال، وتحرير محل النزاع، وما إلى ذلك من أدوات التعامل مع النص الشرعي. 

جميل أن نقرأ، لكن كم هو مجهد النقد! فالمفترض أن نشجع القراءة وننشر ثقافتها في مجتمعاتنا، لكن ينبغي كبح جماح النقد الجماهيري الفوضوي! ويحسن أن نميز بين القراءة الناقدة ونقد النص: فالقراءة الناقدة، بالرغم من تعدد تعريفاتها، هي عملية ذهنية تلقائية، تنتج عن ملكة القارئ من خلال مجموع معارفه، تمكنه من التعامل بموضوعية وحياد في تلقي النص بشكل مباشر. أما النقد فهو تحليل النص وتفكيكه ودراسته والحكم عليه من خلال الأدوات النقدية لكل فن. إذاً القراءة الناقدة عملية ذهنية تلقائية لتلقي النص وقبوله، في حين أن النقد عملية فنية منهجية لتقييم النص والحكم عليه. 

تشكو مجتمعاتنا العربية من ضعف القراءة، وهذا ليس اكتشافا مذهلا ولم يعد مخزيا للأسف، وأرى أن أحد أسباب ظاهرة الضعف هي أن كل قارئ لدينا يظن أنه يجب أن يكون ناقدا! فأصبحت لدينا تركيبة ثقافية غريبة مكونة من ألف كاتب وألف قارئ وألف ناقد!! فحين أن في الوضع الطبيعي والصحي يجب أن يكون عدد القراء يفوق عدد الكتّاب، وعدد الكتّاب يفوق عدد النقّاد, وأظن أن تركيبتنا العربية السابقة سبب في استمرار دوراننا حول ساقية ظنون فلا نثير أرضاً ولا نسقي حرثاً، فتداعت علينا الأمم المعادية فذبحونا! 

قد أكون تطرقت لعدة مواضيع في الفقرات السابقة، لكن الذي يربط بينها هي "الكلمات"، والتي ينتج عنها عدد من العمليات يجب أن نفصلها عن بعض: العملية الكتابية، العملية القرائية، العملية النقدية. ولا جدل في أن العملية الكتابية العربية سبب رئيس في تدهور العملية القرائية، إلا أن ضعف المدرسين لا يعني أن يتولى الطلاب مهام الإشراف التربوي! ففي الحالتين الضعيفتين عربياً، الثقافة والتعليم، يجب العناية المتوازية بجميع مواطن الخلل أفقيا وعاموديا وإصلاحها. 

وحيث إنني أهتم بالشأن الشرعي، فسأضرب ثلاث أمثلة حاضرة في زمن كتابة هذا المقال، تكشف شيئاً من تداخل عمليتي القراءة والنقد في هذا الجانب: 

* المثال الأول/ فتوى إرضاع الكبير: 
إن إرضاع الكبير مسألة فقهية يعلمها جل طلاب العلم، ما لم يكن كلهم، كما يعلمون الخلاف الواقع، وإن كان ضعيفا، في تناول دليلها هل هو حكم عين أم حكم عموم، لكن ثارت زوبعة حول فتوى لأحد الشيوخ في هذه الأيام يجيز فيها إرضاع الكبير، وتوالت الردود عليه والتهكم بفتواه من العامة وجل الخاصة، علماً أن هذا المفتي له سلف معتبر في هذا الرأي. ولا شك أنه كان يجدر بجمهور قرّاء هذه الفتوى أن يتوقفوا عند مرتبة القراءة الناقدة في قبول أو رفض تلقيها، لكن العبث النقدي أشعر كل واحد بضرورة التقدم للتصدي لهذه الفتوى ولكأن الأمة تنتظر بيانه في تقييمها؛ فكانت النتيجة تطاول البعض على الدليل والنيل من أشخاص من يقول بهذا القول، وهو مرويُّ عن جماعة من كبار علماء الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة متفقهين. 

إن الأولى أن يتم الرد على هذا المفتي بكل أدب علمي، يبين له فيه ضعف قوله وأنه يخالف أصول مذهبه وقواعده الذي كان يقضي به بين الناس ولا يمكن تخريجه عليها، وأن القول بهذا الرأي ينتج عنه من المفاسد المعتبرة والتي جاءت الشريعة بدفع أشباهها، كما كان يجدر التنبيه على التفرقة بين تبيين الراجح مطلقا في هذه المسألة وبين إفتاء المفتي المجتهد في حالة عين تعرض عليه. 

كل ما سبق، كان الأولى التزامه عوضا عن الفوضى التي صاحبت هذا الأمر، علما أن المجتمع الذي رفض الفتوى ابتداء لم يزل رافضاً لها بعد النقد اللاذع الذي طالها بلا فائدة علمية استفادها! فنحن أمام جهد عبثي ـ في غالبه ـ لم يضف شيئاً لجمهور القراء سوى دفعهم لاعتلاء منصة النقد من دون أصول أو حتى أدب، وإنا لله وإنا إليه راجعون. 

فما بالك إذا عرف الناقد الحصيف أن الباعث الخفي وراء هذه الفتوى هو التفرد والظهور الإعلامي، وأنها محاولة لإيجاد عمل بعد التقاعد الوظيفي والتكليف التشريفي، بالإشارة فيما قد يحال إليه بشأنه! فنعلم حينئذ أن هذا السباب والتعيير المتلفع بدثار "النقد" قد حقق المكاسب الإعلامية المرادة، وأعاد صاحب الفتوى إلى الجمهور بعد أن أقصي عنهم! 

* المثال الثاني/ فتوى إباحة الموسيقى: 
هي في حالها كما المثال الأول: فيها خلاف معروف لدى طلبة العلم، وللمفتي بها سلف وموافقون من أهل العلم، وجاءت ردود أفعال القراء بعنف الردود الأولى وزيادة! في حين كان الأولى توجيه الجمهور إلى العمل المثمر والتعامل الصحيح مع النصوص التي نقرأها ولا نقبلها؛ فكل المطلوب هو أن تضع المادة المقروءة جانباً، وأن يهتم النقّاد الحذّاق من أهل الفن بتبيين وجه الخلاف، وأن إعمال الأدلة أولى من إهمالها، مع إيضاح درجة الخلاف؛ وذلك لنرقى بالقراء إلى مستوى القراءة الناقدة بدلاً من غوغائية القراءة! 

إن الصلافة في الكتابة والبيان، حتى في الموضوعات الشرعية، مدعاة لرفض الرأي المطروح حتى وإن كان معتبرا، ولا شك أن غالب منتقدي فتوى إباحة الغناء من أهل الاختصاص أزعجهم لغة الاستعلاء في الفتوى وتسفيه أفهامهم وتشويه اجتهادهم، ولهم الحق في ذلك، إضافة إلى أن الفتوى كانت مخالفة لحاجة الحال والزمان، وهذا أصل مهم اعتبره العلماء في تمييز كثير من الأحكام الشرعية، فعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لم يمض الطلاق ثلاثا في لفظ واحد بسبب الجهل بالدليل، بل لواقع الحال المخالف للتعامل مع الشريعة والانقياد لها، فشدد عليهم ومنعهم من السعة لتوغلهم السلبي في مخالفة ظاهر الشريعة! وكذا ابن عباس، رضي الله عنهما، لما جاءه رجل يسأل هل للقاتل من توبة؟ فقال ابن عباس: لا! وهو رأي مخالف للأدلة، إلا أن ابن عباس، كما أوضح لطلابه، رأى في المستفتي عزيمة على القتل فأراد منعه في التشديد عليه بالفتوى! وهذا المنهج كان الأولى اعتباره في نقد فتوى إباحة الغناء عوضا عن النيل من شخص المفتي! لكن كما قلنا فالنقد صعب ولا يحسنه كل أحد! 

يجدر الإشارة أن في المثاليين السابقين تشارك الفريقان المركزَ الأول في الخسارة على الصعيد الإعلامي، وجيّرت الأرباح لصالح من يريد تنحية أهل الاختصاص الشرعي عن ثقة المجتمعات؛ ليحل أنصاف الفقهاء بدلا للفقهاء الذين انشغلوا بالمسائل نصف المهمة! 

* المثال الثالث/ قتل معبد الجهني: 
طرح أحد الكتّاب الأفاضل سؤالا عن حكم قتل المبتدعة في الفقه السلفي استنادا إلى حادثة قتل معبد الجهني التي أيدها بعض العلماء؟ ولأن المسألة موغلة في التخصص، لم تواجه بردود فعل عنيفة، ليس تواضعا بل لجهل المتحمسين للمواطن التي يمكن النقل منها في الرد على هذا السؤال، وقد قام بعض طلبة العلم مشكورا في تفصيل المسألة، إلا أنه قد غاب عن البعض ما أوردته في بداية المقال من أن الكلمات قد تحمل معانٍ خفية خلف ظاهرها السليم! 

ففي ظني أن الباعث على طرح هذه المسألة ليس الحرص على العقيدة! ولا الرغبة في تأصيل التعامل مع المبتدعة!! ولا غراما في المسلك السلفي وتقعيداته!!! 

إن حادثة قتل معبد الجهني ذات رمزية ومغزى في محاولة تصوير المنهج السلفي على أنه منهج دموي ظلامي يضيق بحرية التعبير ويقيم محاكم التفتيش للمخالفين، وليست هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام قصة معبد وغيلان التاريخيتين لهذا الهدف؛ فقد سبق الأستاذَ السائلَ نصرُ أبو زيد والجابري وأبو فخر وغيرهم من أهل منهج التنوير، والأكيد أن أهل هذا النهج يجمعهم العداء للمنهج السلفي ولا يلزم منه اتفاقهم في المعتقدات والغايات، كما يتميزون برؤية اجتزائية للتراث يستعينون بها على ضرب المنهج السلفي دون اعتبار للمنهجية العلمية في دراسة التاريخ؛ فقتل معبد بيد الحجاج لم يكن لأجل الاعتقاد بل كان قتلاً سياسيا في الأصل، وقد تمت تصفية خلقٌ من السلف لأهداف سياسية بيد الحجاج وغيره وأحيانا بمباركة عقائدية من المخالفين للسلفية! ولا يعني الرضا بتصفية المخالف المسيء موافقةً للقاتل؛ ففي الحاضر أبان السلفيون رضاهم بسقوط نظام صدام حسين البعثي مع رفضهم للنظام الحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية! فهل سيأتي في المستقبل من يريد أن يدلل برضا السلفيين عن مقتل صدام في دعم أمريكا لغزو وإسقاط أي نظام يختلفون معه؟؟!! نعم، قد يأتي أمثال هؤلاء من المنحازين ومجتزئي الأحداث بمثل هذا الاستدلال والإلزام الضعيفين! 

قضية قتل معبد ليست محلا لبحث التنويريين أو العقائديين، بل هي مسألة قضائية تُنظر وتبحث في هذا الإطار؛ فلم يزل القضاء في كل زمان ودولة حتى حديثا يعاقب من يثبت لديه أنه قد قام بعمل جنائي أو حرض عليه، حتى لو تدثر بالعباءة الفكرية، فلا يمكن في دول التنوير الحديثة رفض تاريخية الهولوكوست، مثلاً، وإلا تم اتهام القائل بهذه القضية الفكرية بأنه معاد للسامية، ومعاداة السامية تدعو بدورها وتنظّر لأعمال عنف جنائية ضد بعض مواطني الدولة! والأصل أن يتم بحث متى يتم تجريم الأفعال الفكرية والمعاقبة عليها، بغض النظر عن نوع العقوبة، فلكل زمان ودولة أنظمة قضائية يفترض أنها الأصلح له. وهذا بحث يطول تفصيله. 

إن الكلمات لها أبعاد ومعان مختلفة، ولا يصح أن نشغل أنفسنا بتتبعها، بل نذر ذلك لأهل الاختصاص، وغاية المراد منّا أن نرتقي بمجتمعاتنا إلى أن تصل إلى القراءة الناقدة، فما اتفقنا معه قبلناه، وما اختلفنا معه تركناه، وهذا يُلزم أهل الاختصاص أن يتولوا أداء مهمتهم الأصيلة في نقد النصوص والآراء المطروحة بعلمية وحصافة وعدل. 

ويحكي عن أبقراط قوله: من اتخذ الحكمة لجاماً، اتخذه الناس إماماً. 

تمنيتَ أن تمسي فقيهاً مناظراً ::: بغير عناءٍ! والجنون فنونُ..! 
وليس اكتساب المال دون مشقةٍ ::: تكبدتها؛ فالعلم كيف يكونُ؟

عداوات بلا فائدة.. خالص جلبي مثالا

عداوات بلا فائدة.. خالص جلبي مثالا


يقول إيليا أبو ماضي: 
شكرا لأعدائي فلولا عيثهم *** لم أدر أنهمُ من الغوغاء 
ولا شك أن هذا ليس على إطلاقه، فبعض العداوة حق وواجب، وبعض الأعداء هم من خيرة المفكرين وأصحاب العلم، لكن الإشكال لمَا تكون المعاداة هي التخصص الدقيق لكثير من الكتاب، فلا مشروع نهضوي يقوم عليه! ولا مجال علمي يبدع فيه!! ولا عبادة صالحة يداوم عليها!!! لذا ترى أهل هذا التخصص غالبا من الغوغاء؛ فحتى لغتهم ضعيفة، وتراكيبهم ركيكة بلهٍ عن ضعف بنيونية الكتابة من الناحية العلمية. 

كم آسف على جهود ضاعت في عداوات لا تستحق هذا الكم: إما لضحالة الفكرة محل النقد أو للجهالة المحيطة بها؛ فتأتي هذه الجهود الضائعة لتبرزها أو صاحبها! فتخيلوا مدرسا مغمورا يعبث ببلاهة مختلفا مع بعض الأحكام الشرعية، تقام ضده دعوى احتساب أمام القضاء، تكون نتيجتها أن يستتكب في الصحافة ويستضاف إعلاميا على المستوى العربي! أرجو أن لا تكون حقيقة هذا النوع من العداوات مجرد شعور طفولي بإمساك حشرة في البرية، والتي غالبا ما تنجو من قبضة الطفل بعد أن يشمئز الكبار من فعله! 

لا أظن أن سلمان رشدي يملك من مقومات النجاح والشهرة ما يستحق أن يذكر، إلا أن الخميني أهداه الظهور وأبرزه على ظهر فتوى تهدر دمه! والإشكال الأصل في هذا هو ضعف التكوين العلمي مصاحبا برقة الديانة في أحوال؛ فالديانة الحقة تورث صاحبها تورعا وقلقا من مجانبة الصواب أو الوقوع في أعراض الناس، كما أنها تحمل الكلام على أحسن الأوجه وتقضي بسلامة النيات. 
أما التكوين العلمي الصحيح، فيمنع صاحبه من اجتثاث الكلام من سياقه، ويفرض في تقييم الفكرة المطروحة تناولها بشكل متكامل، ويفترض استخدام نفس الأدوات العلمية للنقد؛ فعلماء التفسير، على سبيل المثال، لم يستخدموا أدوات دراسة الأسانيد الحديثية ليطبقوها في مناهج التفسير وكتبه. 

وأهم فوائد التكوين العلمي الصحيح هي معرفة دقيق المصالح والمفاسد، ومن ذلك قول ابن تيمية، رحمه الله: (كما يقال ليس العاقل الذي يعلم خير من الشر إنما العقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين)، وقوله: (والشارع دائمًا يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما)، وهذا مشهور عند ابن تيمية حتى تلازمت هذه القاعدة الذهبية مع فكره. 
وقد يقول قائل: ما أدراني بأن "احتسابي" على هذا الشر سينجم عنه شر أعظم، في حين أن الواجب علي الآن هو أن أنكر الشر الحالي؟ فأقول: يا رحمك الله الزم السلامة، فإن لم تملك بعد القدرة العلمية والعقلية على تفعيل هذه القاعدة واستشراف مآلات الأمور، فأنت معذور عند الله، ويجب عليك أن تنكر هذا المنكر في قلبك، هذا في حال كون المنكر متفقا عليه، فما بالك في كون هذا المنكر محل النقد يحتمل وجه من الصواب!

كم ندمت على وقت أضعته في الإطلاع على بعض المؤلفات بسبب عداوات شنت عليها، فإذا هي لا تساوي ثمن الحبر والورق الذي طبعت به وعليه، حتى تبنيت منهجا بأن لا أطلع على مؤلف بسبب فتوى أطلقت ضده أو مقالا انتقده؛ فالمفتون كثر والمنتقدون أكثر، وإنا لله وإنا إليه راجعون. 

والواقع العربي والإسلامي اليوم يشكو ضعفا في بعض جوانبه، ولم يكن العمل السلبي ضد الآخرين في يوم سببا لنجاح الأفراد وتفوق الأمم؛ فأينع ثمرة لموجة الانتقادات ووضع الناس في الميزان، هي أن تحافظ على الوضع الحالي، والوضع الحالي يشكو ضعفا! فماذا جنينا؟! ومن ذلك أنك ترى القرآن يخط طريقة واضحة في الدعوة إلى العمل الإيجابي والبناء (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). 

أكاد أجزم أن غالبية سكان المملكة العربية السعودية، بلهٍ عن بلده الأم سوريا أو العالم الإسلامي، لا يعرفون من هو خالص جلبي، ولا يقيمون لرأيه وزنا في تلقي أمور بالشريعة منه! فما الفائدة من عشرات الدراسات والردود والمقالات والفتاوى ضده؟! قد أتفهم استضافته في برنامج حواري من باب الإثارة الإعلامية ورفع نسبة المشاهدين، خاصة إذا كان الحوار كاشفا لضعف ما يتبناه. لكن الأسوأ من رأيه المطروح، أن يناصب العداء بلا فائدة ترجى سوى مكاسب إعلامية تحسب له! 

خلاصة موضوع الدكتور خالص جلبي هو أنه طبيب من مواليد محافظة الحسكة بسوريا عام 1945م، حصل على شهادة الطب ومن ثم الشريعة في دمشق 1974م، وأكمل دراسته في ألمانيا سنة 1982م في تخصص الجراحة، وانتهى به المطاف للعمل طبيبا في منطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية. له مؤلفات فكرية عديدة ولا أعلم له مؤلفا علميا واحدا في تخصصه! بل حتى بحث التخرج من كلية الطب، كان من المضحك أن يقدم في كلية طبية بعنوان (الطب في محراب الإيمان): وهو مجرد جمع لمعلومات طبية وعلمية، كحال باقي مؤلفاته، وتزيين صفحاته بآيات من كتاب الله! 

فالحالة الفكرية والعلمية الضعيفتان في الزمان الذي نشأ فيه الدكتور جلبي، أورثته جزءا من الشعور بالنقص، لا أقول الذاتي بل على مستوى ثقافة الأمة، الذي ظل ملازما لأطروحاته؛ فتراه دائما مهووس بنظرة الآخرين إلينا، وماذا يقولون عنا، وما رأيهم فينا!! وكانت قفزته إلى الغرب صدمة حضارية، لا تختلف كثيرا عن صدمة عبدالله القصيمي، تراها حاضرة في مؤلفاته التي يستعرض فيها قراءاته ومعلوماته! 

لم يقدم الدكتور خالص جلبي منهجا فكريا يستفاد منه، ولا نظرية علمية تنسب إليه، ولا اكتشافا طبيا يشكر عليه! فماذا لو أخطأ في عشرات الجمل من بين آلاف المعلومات التي جمعها من باب الثقافة العامة؟! حسابه عند ربه، ولا يجب أن نهديه نجاحا لم يستطع هو أن يحققه لنفسه؛ فالدكتور جلبي لا يمكن تصنيفه على أنه مفكر فيلسوف ولا فقيه شعري ولا كاتب أديب، بل غاية ما يقال إنه أحد الأطباء الاعتياديين، ولديه وقت فراغ كثير يقضيه بعيدا عن تخصصه، فينقل معلومات قرأها تحت تأثير العقدة المذكورة آنفا. 

هل خالفت ما أدعو إليه في هذا المقال في نقد الدكتور خالص جلبي؟ قد يكون الجواب نعم، لكن أردت أن أضرب مثالا واقعا لعداوات بلا فائدة نعيشها؛ فلا الرجل معروف، ولا رأيه مؤثر، ولا فكرته ناضجة! بل حتى النخب القارئة، في المجتمع السعودي خصوصا والعربي عموما، لا تصنفه على أنه كاتب من الدرجة الأولى! 

ولنفترض أن شخصا ما رأى في نفسه الأهلية في تقدير خير الخيرين وشر الشرين، وأن من واجبه الإنكار العلني ضد فكرة أو صاحبها؛ فإن المدرسة الإسلامية تقتضي (إذا عمل أحدكم عملا فليتقنه)، وإلا فإنه كما يقول الفيلسوف الألماني "نيتشه": (الذي لا يقتلك، يجعلك أقوى)!!

تعظيم شعائر الله


تعظيم شعائر الله

الناظر في حال الفكر الإسلامي الحديث يجده يراوح مكانه بين جمود وتفلت: تعلق بالتراث وهروب شعوري إلى جميل الماضي، وسخط على الحاضر وتنكر وجداني للحالة الراهنة! ولا يعني هذا خلو الساحة من المشاريع الفكرية الواعية، بل حديثي هو عن الغالب إلا ما رحم ربك، وليس هذا من باب ظن السوء في الأمة أو جلد الذات، بل أعترف أن الحراك الفوضوي أحب إلي من السكون السلبي؛ فالحراك مؤشر حياة في حين أن السكون علامة للموت! لكن الواجب على عقلاء الأمة هو توجيه هذا الحراك إلى ما فيه ثمرة ويعود بالنفع العملي عليها. 
وأرى أن من أهم موجهات هذا الحراك الفكري الفوضوي نحو الإيجابية هي قاعدة "تعظيم شعائر الله"، وهذا المعنى العظيم والأصل المهم قد ذهل عن حقيقته كثير من الكتاب، فتراهم بين زائد له عن حده في التطبيق ومعطلا غايته، وبين مفرط فيه ومجترئ عليه، و كلا طرفي قصد الأمور ذميم! فارتأيت طرق هذا الموضوع على النحو التالي: 

* ما المراد بتعظيم شعائر الله؟! 
ورد هذا التعبير في كتاب الله في أربعة مواضع: 
قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ.. الآية) البقرة/ 158 
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ.. الآية) المائدة/ 2 
قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) الحج/ 32 
وقوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ.. الآية) الحج/ 36 
وتنوعت تفاسير العلماء لشعائر لله والجامع لها كما اختار الطبري في تفسيره لآية المائدة بعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى "شعائر الله"، فقال: (وأولى التأويلات بقوله: "لا تحلوا شعائر الله"، قول عطاء الذي ذكرناه من توجيهه معنى ذلك إلى: لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه. لأن الشعائر جمع شعيرة، والشعيرة فعيلة من قول القائل: "قد شعر فلان بهذا الأمر"، إذا علم به؛ فالشعائر المعالم من ذلك. وإذا كان ذلك كذلك كان معنى الكلام لا تستحلوا أيها الذين آمنوا معالم الله، فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج، من تحريم ما حرم الله إصابته فيها على المحرم وتضييع ما نهى عنه تضييعه فيها. وفيما حرم من استحلال حرمات حرمه، وغير ذلك من حدوده وفرائضه، حلاله وحرامه، لأن كل ذلك من معالمه وشعائره، التي جعلها أمارات بين الحق والباطل يعلم بها حلاله وحرامه وأمره ونهيه) (تفسير الطبري 5/ 54). 
فمعالم الدين من أحكام وشرائع وأقوال وأفعال وأزمنة وأماكن هي شعائر الله، والمولى عز وجل قد أمر بتعظيم شعائر دينه بالأمر الصريح وبنسبتها إليه، وزجر عن انتهاكها بالنهي الصريح، وعلق تعظيم شعائر الله بالإيمان في مخطابته لعباده (يا أيها الذين آمنوا) وأن تعظيمها (من تقوى القلوب). 
والتعظيم هو الإكبار والتبجيل، وهي من أعمال القلوب، فهي وظيفة زائدة عن مجرد الاتباع في الفعل أو عدمه، ولا يحصل الإيمان المنجي للعبد من التهلكة إلا بها، ومن ذلك قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء/ 65. 

* تعظيم السابقين لشعائر الله بين الإتباع والاجتهاد: 
لا والله لا يرتفع شأن عبد من عباد الله ولا ينفع الله به إلا بتعظيمه لشعائر الله، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) الرعد/13، وأعرض هنا صورتين لتعظيم شعائر الله بين الإتباع والاجتهاد؛ حتى لا يظن ظانٌ أن تعظيم شعائر الله يقضي إلى جمود مطلق ولا إلى تفلت مسيء: 
ـ جمع المصحف: روى البخاري في صحيحه من حديث زيد بن ثابت، رضي الله عنه، قال: (بعث إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بقراء القرآن في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه.. الحديث). 
ـ جيش أسامة: روى ابن كثير في البداية والنهاية (أن أبا هريرة، رضي الله عنه، قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبد الله، ثم قال الثانية ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أبا هريرة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام فلما نزل بذي خشب قُبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة؛ فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة! فقال أبو بكر: والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله ولا حللت لواء عقده رسول الله.. الخبر). 
وفي الخبرين صورة عظيمة وفهم دقيق لتعظيم شعائر الله من أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فما منعهما عدم جمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للمصحف من أن يشير الفاروق على أبي بكر بجمع المصحف وأن يأمر أبو بكر به؛ فكان تحقيق تعظيم شعائر الله في هذا الاجتهاد. في حين أن الحالة الدينية والسياسية المتمثلة في ردة بعض قبائل العرب بعد وفاة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، لم تكن لتغير من تعظيم شعائر الله في نفس أبي بكر فيعيد جيش أسامة بعد أن بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

* ضابط تعظيم شعائر الله: 
فلما علمنا مما مضى أن تعظيم شعائر الله لا يكون بالجمود البارد على النصوص، ولا يكون، من باب أولى، في الافتيات عليها؛ فما هو الضابط في هذه الحالة؟! أقول: إن الضابط في أن يقر في نفس كل مسلم، ابتداء، أصل التعظيم وأهميته، وأن نعي النصوص المتعلقة بتعظيم شعائر الله والآمرة باقتفاء هدي المصطفى، صلوات ربي وسلامه عليه، والتسليم المطلق لأحكام الدين ومقاصده الحقيقية. ومن أول ما يجب تعظيمه والعناية به شهادة (أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله). ومن صور ذلك التعظيم أن نعلم جميعا أن دين الله ليس برنامجا سياسيا ولا نظاما اقتصاديا ولا فكرة اجتماعية، بل هو منهج حياة شمولي يقوم على أساس العقيدة أولا، فمتى ما كانت المواطنة السياسية أو العوائد الاقتصادية أو العقد الاجتماعي هاجسك وميزانك في تناول الشريعة ودين الله فاعلم أنك لم تعظم شهادة (أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله) حق التعظيم. وهذا لا يعني عدم الاهتمام بما أشرت إليه، فهو مما اعتنت الشريعة به وعدت من الضروريات التي لا يتصور العيش بدونها، لكن المقصود أن لا يتجاوز بها عند حدها لتسير الشريعة تبعا لها لا العكس! 
وليعلم كل متناول للشأن الإسلامي أن المهم عند كل فكرة وحديث وعمل ليس أوجه تخريجها، أولاً، على الطريقة الإسلامية، بل الأهم أن تستحضر عظمة الله عز وجل وأنت تقف بين يديه في يوم الحساب لتعرض قضيتك وأنك راعيت فيها جناب المولى جل في علاه. وأين نحن من حديث أسامة بن زيد، رضي الله عنهما، وأصله في مسلم، قال: (بعثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا، فلما غشيناه قال "لا إله إلا الله" فضربناه حتى قتلناه، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: من لك بـ"لا إله إلا الله" يوم القيامة؟!! فقلت: يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟! من لك بـ"لا إله إلا الله" يوم القيامة؟! من لك بـ"لا إله إلا الله" يوم القيامة؟! فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ). فمن لمضيعي مقاصد الشريعة وحكمتها بجمودهم يوم القيامة؟! ومن للمجترئين على نصوص الشريعة بتفلتهم يوم القيامة؟! 
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) الحشر/ 19 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.. 

وكتبه/ فيصل بن فالح الميموني