14 يوليو 2010

تعظيم شعائر الله


تعظيم شعائر الله

الناظر في حال الفكر الإسلامي الحديث يجده يراوح مكانه بين جمود وتفلت: تعلق بالتراث وهروب شعوري إلى جميل الماضي، وسخط على الحاضر وتنكر وجداني للحالة الراهنة! ولا يعني هذا خلو الساحة من المشاريع الفكرية الواعية، بل حديثي هو عن الغالب إلا ما رحم ربك، وليس هذا من باب ظن السوء في الأمة أو جلد الذات، بل أعترف أن الحراك الفوضوي أحب إلي من السكون السلبي؛ فالحراك مؤشر حياة في حين أن السكون علامة للموت! لكن الواجب على عقلاء الأمة هو توجيه هذا الحراك إلى ما فيه ثمرة ويعود بالنفع العملي عليها. 
وأرى أن من أهم موجهات هذا الحراك الفكري الفوضوي نحو الإيجابية هي قاعدة "تعظيم شعائر الله"، وهذا المعنى العظيم والأصل المهم قد ذهل عن حقيقته كثير من الكتاب، فتراهم بين زائد له عن حده في التطبيق ومعطلا غايته، وبين مفرط فيه ومجترئ عليه، و كلا طرفي قصد الأمور ذميم! فارتأيت طرق هذا الموضوع على النحو التالي: 

* ما المراد بتعظيم شعائر الله؟! 
ورد هذا التعبير في كتاب الله في أربعة مواضع: 
قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ.. الآية) البقرة/ 158 
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ.. الآية) المائدة/ 2 
قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) الحج/ 32 
وقوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ.. الآية) الحج/ 36 
وتنوعت تفاسير العلماء لشعائر لله والجامع لها كما اختار الطبري في تفسيره لآية المائدة بعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى "شعائر الله"، فقال: (وأولى التأويلات بقوله: "لا تحلوا شعائر الله"، قول عطاء الذي ذكرناه من توجيهه معنى ذلك إلى: لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه. لأن الشعائر جمع شعيرة، والشعيرة فعيلة من قول القائل: "قد شعر فلان بهذا الأمر"، إذا علم به؛ فالشعائر المعالم من ذلك. وإذا كان ذلك كذلك كان معنى الكلام لا تستحلوا أيها الذين آمنوا معالم الله، فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج، من تحريم ما حرم الله إصابته فيها على المحرم وتضييع ما نهى عنه تضييعه فيها. وفيما حرم من استحلال حرمات حرمه، وغير ذلك من حدوده وفرائضه، حلاله وحرامه، لأن كل ذلك من معالمه وشعائره، التي جعلها أمارات بين الحق والباطل يعلم بها حلاله وحرامه وأمره ونهيه) (تفسير الطبري 5/ 54). 
فمعالم الدين من أحكام وشرائع وأقوال وأفعال وأزمنة وأماكن هي شعائر الله، والمولى عز وجل قد أمر بتعظيم شعائر دينه بالأمر الصريح وبنسبتها إليه، وزجر عن انتهاكها بالنهي الصريح، وعلق تعظيم شعائر الله بالإيمان في مخطابته لعباده (يا أيها الذين آمنوا) وأن تعظيمها (من تقوى القلوب). 
والتعظيم هو الإكبار والتبجيل، وهي من أعمال القلوب، فهي وظيفة زائدة عن مجرد الاتباع في الفعل أو عدمه، ولا يحصل الإيمان المنجي للعبد من التهلكة إلا بها، ومن ذلك قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء/ 65. 

* تعظيم السابقين لشعائر الله بين الإتباع والاجتهاد: 
لا والله لا يرتفع شأن عبد من عباد الله ولا ينفع الله به إلا بتعظيمه لشعائر الله، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) الرعد/13، وأعرض هنا صورتين لتعظيم شعائر الله بين الإتباع والاجتهاد؛ حتى لا يظن ظانٌ أن تعظيم شعائر الله يقضي إلى جمود مطلق ولا إلى تفلت مسيء: 
ـ جمع المصحف: روى البخاري في صحيحه من حديث زيد بن ثابت، رضي الله عنه، قال: (بعث إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بقراء القرآن في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه.. الحديث). 
ـ جيش أسامة: روى ابن كثير في البداية والنهاية (أن أبا هريرة، رضي الله عنه، قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبد الله، ثم قال الثانية ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أبا هريرة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام فلما نزل بذي خشب قُبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة؛ فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة! فقال أبو بكر: والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله ولا حللت لواء عقده رسول الله.. الخبر). 
وفي الخبرين صورة عظيمة وفهم دقيق لتعظيم شعائر الله من أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فما منعهما عدم جمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للمصحف من أن يشير الفاروق على أبي بكر بجمع المصحف وأن يأمر أبو بكر به؛ فكان تحقيق تعظيم شعائر الله في هذا الاجتهاد. في حين أن الحالة الدينية والسياسية المتمثلة في ردة بعض قبائل العرب بعد وفاة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، لم تكن لتغير من تعظيم شعائر الله في نفس أبي بكر فيعيد جيش أسامة بعد أن بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

* ضابط تعظيم شعائر الله: 
فلما علمنا مما مضى أن تعظيم شعائر الله لا يكون بالجمود البارد على النصوص، ولا يكون، من باب أولى، في الافتيات عليها؛ فما هو الضابط في هذه الحالة؟! أقول: إن الضابط في أن يقر في نفس كل مسلم، ابتداء، أصل التعظيم وأهميته، وأن نعي النصوص المتعلقة بتعظيم شعائر الله والآمرة باقتفاء هدي المصطفى، صلوات ربي وسلامه عليه، والتسليم المطلق لأحكام الدين ومقاصده الحقيقية. ومن أول ما يجب تعظيمه والعناية به شهادة (أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله). ومن صور ذلك التعظيم أن نعلم جميعا أن دين الله ليس برنامجا سياسيا ولا نظاما اقتصاديا ولا فكرة اجتماعية، بل هو منهج حياة شمولي يقوم على أساس العقيدة أولا، فمتى ما كانت المواطنة السياسية أو العوائد الاقتصادية أو العقد الاجتماعي هاجسك وميزانك في تناول الشريعة ودين الله فاعلم أنك لم تعظم شهادة (أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله) حق التعظيم. وهذا لا يعني عدم الاهتمام بما أشرت إليه، فهو مما اعتنت الشريعة به وعدت من الضروريات التي لا يتصور العيش بدونها، لكن المقصود أن لا يتجاوز بها عند حدها لتسير الشريعة تبعا لها لا العكس! 
وليعلم كل متناول للشأن الإسلامي أن المهم عند كل فكرة وحديث وعمل ليس أوجه تخريجها، أولاً، على الطريقة الإسلامية، بل الأهم أن تستحضر عظمة الله عز وجل وأنت تقف بين يديه في يوم الحساب لتعرض قضيتك وأنك راعيت فيها جناب المولى جل في علاه. وأين نحن من حديث أسامة بن زيد، رضي الله عنهما، وأصله في مسلم، قال: (بعثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا، فلما غشيناه قال "لا إله إلا الله" فضربناه حتى قتلناه، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: من لك بـ"لا إله إلا الله" يوم القيامة؟!! فقلت: يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟! من لك بـ"لا إله إلا الله" يوم القيامة؟! من لك بـ"لا إله إلا الله" يوم القيامة؟! فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ). فمن لمضيعي مقاصد الشريعة وحكمتها بجمودهم يوم القيامة؟! ومن للمجترئين على نصوص الشريعة بتفلتهم يوم القيامة؟! 
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) الحشر/ 19 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.. 

وكتبه/ فيصل بن فالح الميموني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق