14 يوليو 2010

من وراء الكلمات..!!

من وراء الكلمات..!!


إن قراءة الكلمات وتفكيك الجمل والتعامل مع ظاهر العبارات عملية بسيطة يقدر عليها طلاب المدارس، لكن الأمر الذي يحتاج إلى جهد ومعرفة هو استقراء النص بجملته والتعرف إلى مفرداته غير المكتوبة وسبر معانيه وتحليلها. وبين هاتين العمليتين يصطف غالب المتلقين في صفين؛ فنجد الفريق الأول يتشعب إلى سذاجة التلقي بشقيه: محسن الظن ومسيئه! 

فالأول تغريه سلامة الكلمات وبراءة العبارات؛ فيسهل التلاعب به بالألفاظ وتمرير الأهداف من خلاله. والثاني يركز على المفردات المكتوبة ويغفل المراد ما لم يكن منصوصا عليه؛ فلا يعنيه المعنى الأصلي وينشغل باصطياد الكلمات الموهمة بسنارة الجرح! 

على النقيض من هذا الفريق نجد آخرين منقسمين بدورهم إلى من يعامل النص كطلاسم سحرية لا يملك إلا واضعها فكها؛ فلكل متناول للنص قدرته على وضع معنى خاص به بغض النظر عن الساحر الأصلي، فلا مجال للصواب والخطأ فيه! وآخرين يقدسون مراد النص بغض النظر عن الخطاب الموصل إليه، فالمهم أن الهدف يبدو جميلا والمغزى خلاب؛ فهي ميكفاليية ثقافية! 
برأيي، فإن التعامل النقدي مع النص يجب أن يكون موازنا بين المفردات والتراكيب وبين المعاني والأهداف؛ إضافة إلى الأبعاد الزمنية والمكانية والشخصية للنص، وهذا يبين لنا صعوبة العمل النقدي؛ ففرق بين أن تقرأ النص وأن تنقده! 

فقراءة نص شعري تعني الاستمتاع بتصويراته والتلذذ بموسيقاه ورؤية مشاهده، لكن نقد النص الشعري يحتاج إلى أكثر من مجرد ما سبق، فلا يعني القارئُ المجردُ الموازنةَ بين مدخل القصيدة وموضوعها وخاتمتها، كما لا يهمه معرفة القصيدة في أي مدرسة تخرجت: الكلاسيكية أو الرومنسية أو الواقعية! 

وكذا يتعلق الأمر في قراءة فتوى شرعية؛ فالقارئ المجرّد يهمه استدلال المفتي ومعرفة الحكم الشرعي الذي يقول به المفتي، ولا يعنيه على أي مذهب خرّج المفتي استدلاله أو ما هي أصوله التي تعامل فيها مع النص، وفي مثال الفتوى الشرعية نستطيع أن نلحظ التداخل بين عمليتي القراءة والاستقراء "النقد" في ردود الكثير على بعض الفتاوى التي يختلفون فيها مع أصحابها؛ فنقد الفتوى لا يكون فقط بقراءتها ومن ثم إيراد دليل معارض لها، أو تأويل مختلف لنفس الدليل الذي استدل بها صاحب الفتوى المُنتقدة، فغالب المفتين في هذه الأزمنة لا يغيب عنهم الدليل المعارض أو التأويل المخالف، بل يحتاج الناقد لما هو أعمق من هذه الظاهرية القرائية في التعامل مع النص: من إعمال الأصول والقواعد، واستخراج أوجه الاستدلال، وتحرير محل النزاع، وما إلى ذلك من أدوات التعامل مع النص الشرعي. 

جميل أن نقرأ، لكن كم هو مجهد النقد! فالمفترض أن نشجع القراءة وننشر ثقافتها في مجتمعاتنا، لكن ينبغي كبح جماح النقد الجماهيري الفوضوي! ويحسن أن نميز بين القراءة الناقدة ونقد النص: فالقراءة الناقدة، بالرغم من تعدد تعريفاتها، هي عملية ذهنية تلقائية، تنتج عن ملكة القارئ من خلال مجموع معارفه، تمكنه من التعامل بموضوعية وحياد في تلقي النص بشكل مباشر. أما النقد فهو تحليل النص وتفكيكه ودراسته والحكم عليه من خلال الأدوات النقدية لكل فن. إذاً القراءة الناقدة عملية ذهنية تلقائية لتلقي النص وقبوله، في حين أن النقد عملية فنية منهجية لتقييم النص والحكم عليه. 

تشكو مجتمعاتنا العربية من ضعف القراءة، وهذا ليس اكتشافا مذهلا ولم يعد مخزيا للأسف، وأرى أن أحد أسباب ظاهرة الضعف هي أن كل قارئ لدينا يظن أنه يجب أن يكون ناقدا! فأصبحت لدينا تركيبة ثقافية غريبة مكونة من ألف كاتب وألف قارئ وألف ناقد!! فحين أن في الوضع الطبيعي والصحي يجب أن يكون عدد القراء يفوق عدد الكتّاب، وعدد الكتّاب يفوق عدد النقّاد, وأظن أن تركيبتنا العربية السابقة سبب في استمرار دوراننا حول ساقية ظنون فلا نثير أرضاً ولا نسقي حرثاً، فتداعت علينا الأمم المعادية فذبحونا! 

قد أكون تطرقت لعدة مواضيع في الفقرات السابقة، لكن الذي يربط بينها هي "الكلمات"، والتي ينتج عنها عدد من العمليات يجب أن نفصلها عن بعض: العملية الكتابية، العملية القرائية، العملية النقدية. ولا جدل في أن العملية الكتابية العربية سبب رئيس في تدهور العملية القرائية، إلا أن ضعف المدرسين لا يعني أن يتولى الطلاب مهام الإشراف التربوي! ففي الحالتين الضعيفتين عربياً، الثقافة والتعليم، يجب العناية المتوازية بجميع مواطن الخلل أفقيا وعاموديا وإصلاحها. 

وحيث إنني أهتم بالشأن الشرعي، فسأضرب ثلاث أمثلة حاضرة في زمن كتابة هذا المقال، تكشف شيئاً من تداخل عمليتي القراءة والنقد في هذا الجانب: 

* المثال الأول/ فتوى إرضاع الكبير: 
إن إرضاع الكبير مسألة فقهية يعلمها جل طلاب العلم، ما لم يكن كلهم، كما يعلمون الخلاف الواقع، وإن كان ضعيفا، في تناول دليلها هل هو حكم عين أم حكم عموم، لكن ثارت زوبعة حول فتوى لأحد الشيوخ في هذه الأيام يجيز فيها إرضاع الكبير، وتوالت الردود عليه والتهكم بفتواه من العامة وجل الخاصة، علماً أن هذا المفتي له سلف معتبر في هذا الرأي. ولا شك أنه كان يجدر بجمهور قرّاء هذه الفتوى أن يتوقفوا عند مرتبة القراءة الناقدة في قبول أو رفض تلقيها، لكن العبث النقدي أشعر كل واحد بضرورة التقدم للتصدي لهذه الفتوى ولكأن الأمة تنتظر بيانه في تقييمها؛ فكانت النتيجة تطاول البعض على الدليل والنيل من أشخاص من يقول بهذا القول، وهو مرويُّ عن جماعة من كبار علماء الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة متفقهين. 

إن الأولى أن يتم الرد على هذا المفتي بكل أدب علمي، يبين له فيه ضعف قوله وأنه يخالف أصول مذهبه وقواعده الذي كان يقضي به بين الناس ولا يمكن تخريجه عليها، وأن القول بهذا الرأي ينتج عنه من المفاسد المعتبرة والتي جاءت الشريعة بدفع أشباهها، كما كان يجدر التنبيه على التفرقة بين تبيين الراجح مطلقا في هذه المسألة وبين إفتاء المفتي المجتهد في حالة عين تعرض عليه. 

كل ما سبق، كان الأولى التزامه عوضا عن الفوضى التي صاحبت هذا الأمر، علما أن المجتمع الذي رفض الفتوى ابتداء لم يزل رافضاً لها بعد النقد اللاذع الذي طالها بلا فائدة علمية استفادها! فنحن أمام جهد عبثي ـ في غالبه ـ لم يضف شيئاً لجمهور القراء سوى دفعهم لاعتلاء منصة النقد من دون أصول أو حتى أدب، وإنا لله وإنا إليه راجعون. 

فما بالك إذا عرف الناقد الحصيف أن الباعث الخفي وراء هذه الفتوى هو التفرد والظهور الإعلامي، وأنها محاولة لإيجاد عمل بعد التقاعد الوظيفي والتكليف التشريفي، بالإشارة فيما قد يحال إليه بشأنه! فنعلم حينئذ أن هذا السباب والتعيير المتلفع بدثار "النقد" قد حقق المكاسب الإعلامية المرادة، وأعاد صاحب الفتوى إلى الجمهور بعد أن أقصي عنهم! 

* المثال الثاني/ فتوى إباحة الموسيقى: 
هي في حالها كما المثال الأول: فيها خلاف معروف لدى طلبة العلم، وللمفتي بها سلف وموافقون من أهل العلم، وجاءت ردود أفعال القراء بعنف الردود الأولى وزيادة! في حين كان الأولى توجيه الجمهور إلى العمل المثمر والتعامل الصحيح مع النصوص التي نقرأها ولا نقبلها؛ فكل المطلوب هو أن تضع المادة المقروءة جانباً، وأن يهتم النقّاد الحذّاق من أهل الفن بتبيين وجه الخلاف، وأن إعمال الأدلة أولى من إهمالها، مع إيضاح درجة الخلاف؛ وذلك لنرقى بالقراء إلى مستوى القراءة الناقدة بدلاً من غوغائية القراءة! 

إن الصلافة في الكتابة والبيان، حتى في الموضوعات الشرعية، مدعاة لرفض الرأي المطروح حتى وإن كان معتبرا، ولا شك أن غالب منتقدي فتوى إباحة الغناء من أهل الاختصاص أزعجهم لغة الاستعلاء في الفتوى وتسفيه أفهامهم وتشويه اجتهادهم، ولهم الحق في ذلك، إضافة إلى أن الفتوى كانت مخالفة لحاجة الحال والزمان، وهذا أصل مهم اعتبره العلماء في تمييز كثير من الأحكام الشرعية، فعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لم يمض الطلاق ثلاثا في لفظ واحد بسبب الجهل بالدليل، بل لواقع الحال المخالف للتعامل مع الشريعة والانقياد لها، فشدد عليهم ومنعهم من السعة لتوغلهم السلبي في مخالفة ظاهر الشريعة! وكذا ابن عباس، رضي الله عنهما، لما جاءه رجل يسأل هل للقاتل من توبة؟ فقال ابن عباس: لا! وهو رأي مخالف للأدلة، إلا أن ابن عباس، كما أوضح لطلابه، رأى في المستفتي عزيمة على القتل فأراد منعه في التشديد عليه بالفتوى! وهذا المنهج كان الأولى اعتباره في نقد فتوى إباحة الغناء عوضا عن النيل من شخص المفتي! لكن كما قلنا فالنقد صعب ولا يحسنه كل أحد! 

يجدر الإشارة أن في المثاليين السابقين تشارك الفريقان المركزَ الأول في الخسارة على الصعيد الإعلامي، وجيّرت الأرباح لصالح من يريد تنحية أهل الاختصاص الشرعي عن ثقة المجتمعات؛ ليحل أنصاف الفقهاء بدلا للفقهاء الذين انشغلوا بالمسائل نصف المهمة! 

* المثال الثالث/ قتل معبد الجهني: 
طرح أحد الكتّاب الأفاضل سؤالا عن حكم قتل المبتدعة في الفقه السلفي استنادا إلى حادثة قتل معبد الجهني التي أيدها بعض العلماء؟ ولأن المسألة موغلة في التخصص، لم تواجه بردود فعل عنيفة، ليس تواضعا بل لجهل المتحمسين للمواطن التي يمكن النقل منها في الرد على هذا السؤال، وقد قام بعض طلبة العلم مشكورا في تفصيل المسألة، إلا أنه قد غاب عن البعض ما أوردته في بداية المقال من أن الكلمات قد تحمل معانٍ خفية خلف ظاهرها السليم! 

ففي ظني أن الباعث على طرح هذه المسألة ليس الحرص على العقيدة! ولا الرغبة في تأصيل التعامل مع المبتدعة!! ولا غراما في المسلك السلفي وتقعيداته!!! 

إن حادثة قتل معبد الجهني ذات رمزية ومغزى في محاولة تصوير المنهج السلفي على أنه منهج دموي ظلامي يضيق بحرية التعبير ويقيم محاكم التفتيش للمخالفين، وليست هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام قصة معبد وغيلان التاريخيتين لهذا الهدف؛ فقد سبق الأستاذَ السائلَ نصرُ أبو زيد والجابري وأبو فخر وغيرهم من أهل منهج التنوير، والأكيد أن أهل هذا النهج يجمعهم العداء للمنهج السلفي ولا يلزم منه اتفاقهم في المعتقدات والغايات، كما يتميزون برؤية اجتزائية للتراث يستعينون بها على ضرب المنهج السلفي دون اعتبار للمنهجية العلمية في دراسة التاريخ؛ فقتل معبد بيد الحجاج لم يكن لأجل الاعتقاد بل كان قتلاً سياسيا في الأصل، وقد تمت تصفية خلقٌ من السلف لأهداف سياسية بيد الحجاج وغيره وأحيانا بمباركة عقائدية من المخالفين للسلفية! ولا يعني الرضا بتصفية المخالف المسيء موافقةً للقاتل؛ ففي الحاضر أبان السلفيون رضاهم بسقوط نظام صدام حسين البعثي مع رفضهم للنظام الحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية! فهل سيأتي في المستقبل من يريد أن يدلل برضا السلفيين عن مقتل صدام في دعم أمريكا لغزو وإسقاط أي نظام يختلفون معه؟؟!! نعم، قد يأتي أمثال هؤلاء من المنحازين ومجتزئي الأحداث بمثل هذا الاستدلال والإلزام الضعيفين! 

قضية قتل معبد ليست محلا لبحث التنويريين أو العقائديين، بل هي مسألة قضائية تُنظر وتبحث في هذا الإطار؛ فلم يزل القضاء في كل زمان ودولة حتى حديثا يعاقب من يثبت لديه أنه قد قام بعمل جنائي أو حرض عليه، حتى لو تدثر بالعباءة الفكرية، فلا يمكن في دول التنوير الحديثة رفض تاريخية الهولوكوست، مثلاً، وإلا تم اتهام القائل بهذه القضية الفكرية بأنه معاد للسامية، ومعاداة السامية تدعو بدورها وتنظّر لأعمال عنف جنائية ضد بعض مواطني الدولة! والأصل أن يتم بحث متى يتم تجريم الأفعال الفكرية والمعاقبة عليها، بغض النظر عن نوع العقوبة، فلكل زمان ودولة أنظمة قضائية يفترض أنها الأصلح له. وهذا بحث يطول تفصيله. 

إن الكلمات لها أبعاد ومعان مختلفة، ولا يصح أن نشغل أنفسنا بتتبعها، بل نذر ذلك لأهل الاختصاص، وغاية المراد منّا أن نرتقي بمجتمعاتنا إلى أن تصل إلى القراءة الناقدة، فما اتفقنا معه قبلناه، وما اختلفنا معه تركناه، وهذا يُلزم أهل الاختصاص أن يتولوا أداء مهمتهم الأصيلة في نقد النصوص والآراء المطروحة بعلمية وحصافة وعدل. 

ويحكي عن أبقراط قوله: من اتخذ الحكمة لجاماً، اتخذه الناس إماماً. 

تمنيتَ أن تمسي فقيهاً مناظراً ::: بغير عناءٍ! والجنون فنونُ..! 
وليس اكتساب المال دون مشقةٍ ::: تكبدتها؛ فالعلم كيف يكونُ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق