26 يناير 2012

الاستعلاء اليقيني



على هامش اللقاء الثقافي الأول- 3
"يونيو 2011"

الاستعلاء اليقيني


     بعد إنتهاء محاضرة الشيخ الدكتور سعد العتيبي، وفقه الله، "حول" النظرية السياسية الإسلامية، رأيت الشيخ بندر الشويقي، سلمه الله، فابتدرته بالسلام والسؤال عن ورقته للغد بعنوان (الاستعلاء اليقيني) عن أيشٍ هي "حوله"؟! فابتسم وأجاب بما معناه أنه يفضل أن يجعل العنوان مغلقا بعموميته إلى موعد الكشف عن محتواه في الغد، وفاتني أن أبارك له حصوله على درجة الدكتوراة التي سررت لما رأيت "دالها" تزدان قبل إسمه، إلا أنني لم أرد أن أعطل الشيخ عن إكمال مشيه لقصده أو أن أتعطل أنا عن "مناشبتي" لمن رأيت من المشايخ والأفاضل الكرام الذين يعلم الله مدى سروري بالاجتماع بهم من جديد.

     الدكتور بندر، وفقه الله، علم على رأسه نار، قارئ مطلع، سلفي بجدارة، عقدي متمكن، ذو بشاشة ولين جانب إلا أنه يتعصب للمنهجية والعلمية في طرحه ونقاشاته؛ فالذي أعرفه عنه منذ زمن بعيد أنه يرحب بالاختلاف معه ويتسع صدره لذلك، إلا أنه يضيق بالمهاترات خارج إطار البحث العلمي. قد تكون كلماتي السابقة سيرا على مداراة الدكتور أبي أسامة عبدالعزيز قاسم لأحبابه السلفيين خشية غضبتهم، إلا أنها شهادة حق أسجلها للدكتور بندر قبل طرق بعض النقاط التي اختلفت فيها معه "حول" ورقة (الاستعلاء اليقيني).

     تحدثت وأصحابي على الطاولة، الثالثة الذين خلفهم حظهم للجلوس معي على طاولة الاستماع، عن توقعاتنا عن موضوع الورقة فكنا مجمعين على ظننا بأنها متعلقة بضرورة عرض الحق من منطلق الاعتزاز به ويقينية صوابه، طبعا إجماع صاحبي الثالث منهم كان من قبيل الإجماع السكوتي! فكان ما توقعناه صحيح حول محتوى الورقة مع عرض مطول لمعاني الاستعلاء واليقين وصور لبعض المسائل اليقينية التي ضعف عن الاستعلاء بها بعض الإسلاميين! إلى هنا كلام جميل ومحل اتفاق، إلا أن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، وهو ما حاول بعض المداخلين استثارت المحاضر للحديث عن بعضها؛ من مثل متى يكون "اليقين" يقينا ملازما للاستعلاء؟ وماذا عن الشعرة الفاصلة بين اليقينيات والظنيات؟ وهل الاستعلاء يشمل تطبيقه على جميع المدارس الفكرية والعلمية داخل وخارج الإطار الإسلامي؟ أسئلة مطروحة وشبيهاتها لم تطرح تركها الشيخ بندر، في ظني، بلا فاصل جواب.

     من نافل القول أن العلماء يتناولون الأدلة الشرعية بمعيار يقيني يتعلق بمدى ثبوتها ودلالتها، أو ما تعارف عليه بالقطعي والظني، فاليقين بدلالة الظني ليست كما اليقين بدلالة القطعي ولا شك! ولمعالي الشيخ سعد الشثري، وفقه الله، فيما أذكر كتابا حول القطع والظن عند الأصوليين. ويمكن تقسيم مدى قطعية وظنية الأدلة الشرعية من حيث الدلالة إلى قسمين: العقيدة وفقه؛ فالقسم الأول غالب أدلته قطعية الدلالة، أما القسم الثاني فغالب أدلته ظنية الدلالة. ومن هنا نفهم إحدى أسباب اختلاف الفقهاء فيما بينهم وانقسام الفقه الإسلامي في محصلته إلى أربع مذاهب رئيسة! والعقيدة الإسلامية بلا ريب ترجح في ميزان الأهمية واليقين وإن كانت مسائلها أقل بكثير من مسائل الفقه، أي أن العقيدة في حجم المسائل أقل وفي حجم الأهمية أكثر مقارنة بالفقه. لكن ما المراد من هذا الحديث؟ مرادي، أيتها السيدات والسادة، أن حجم مسائل اليقين في الشريعة وإن كانت تحتل مكانة كبيرة إلا أنها في العدد الكلي لمسائل الشريعة قليلة! فلكم أن تتخيلوا حجم مسائل الإتفاق في الفقه مقارنة بمسائل الاختلاف التي يترتب عليها حل وحرمة، ثواب وعقاب، صحة وفساد وبطلان، دماء وأبضاع وأموال! أنا أجزم أن الشيخ بندر لا يقصد بحديثه عن (الاستعلاء اليقيني) مسائل الخلاف والظن التي يرى كل فريق أنه "متيقن" من حكمه فيها، لكن الإشكال في تعامل كثير مع هذه المسائل من منطلق (الاستعلاء اليقني)، ومن هنا نفهم الدماء التي جرت بين أصحاب المذاهب الفقهية في فترة زمانية غابرة بسبب هذا الاستعلاء!

     أرى وجوب ربط مثل هذه الأطروحات، وإن كانت تحمل من الصواب أوجه، بمفاهيم موزاية لا انفكاك بينهم كالبحث والحياد والتواضع والعذر، وأذكر في هذا الجانب ما يروى عن الإمام أحمد أنه قال: (من ادعى الإجماع فهو كاذب) وتوجيه قول الإمام أنه أراد كسر ورد من جاء ليستعلي بالإجماع في مسائل الخلاف! فكونك تدافع عن اليقين الذي لديك في مسائل الخلاف الكثيرة لا يعني أن تستعلي بالباطل على من سواك؛ سواءا كان هذا الباطل كذبا كإدعاء إجماعٍ غير موجود أو احتكارا للحقيقة! ويحكى عن الشعبي قوله: (العلم ثلاثة أشبار: فمن نال شبراً منه شمخ بأنفه، وظن أنَّه نال كل العلم، ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه، وعلم أن هنالك علما لا يعلمه، وأما الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحد!) وقيل (من نال الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئا!). ومن الواقع المعاصر فلا أظن أحدا من طلبة الإمام عبدالعزيز بن باز، قدس الله سره، يخالف في مدى استعلائه باليقينيات الشرعية، وأذكر أنه رحمه الله في إحدى مجالسه ناقشه بعض الطلبة في مسألة من مسائل العقيدة فغضب الشيخ، وهو الحليم، وقال: (قولوا سمعنا وأطعنا، قولوا سمعنا وأطعنا)، إلا أنه في المقابل من أكثر أهل العلم من تتردد على لسانه عبارات من مثل (لا أدري) (الله أعلم) (الأمر واسع) (تحتاج إلى نظر) ومثيلاتها كثير في بعض المسائل الفقهية اليسيرة التي لا يتردد بعض طلبة العلم في زماننا هذا من الجزم فيها و(الاستعلاء اليقيني) على سواه! بل إن بعض الفضلاء سمعته مرة يتحدث عن القول بأن عورة المرأة أمام المرأة هي من السرة إلى الركبة ويقول: (بعض طلاب العلم يفتي بهذه الفتوى المؤسفة! وهذا خطأ، والحقيقة سبق أن بينتها ..الخ) أرأيت كيف يستخدم البعض "الاستعلاء اليقيني" في مسألة خلافية يقول بها الإمام ابن باز، رحمه الله، ويحتكر الحقيقة لنفسه!.

ودمتم سالمين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق