26 يناير 2012

الانفتاح المعرفي



على هامش اللقاء الثقافي الأول- 2
"يونيو 2011"

الانفتاح المعرفي


     جمعني اللقاء الثقافي الأول على طاولة الإستماع بثلاث إخوة أفاضل: أحدهم من مدينة الظهران والثاني من ينبع والثالث كان أندرنا حديثا! حاولت أن أثير حوارا على طاولتنا لنخرج بأكبر فائدة ممكنة لهذا اللقاء بعد انتهاء "المحاضرة" الثانية حول (القيم والتحديات المعاصرة) للدكتور عبدالله العمرو، وفقه الله، والتي تبدو أنها أكثر ورقة فهمها الحاضرون كلٌ على مراده وحسبه! في الجلسة الثالثة كان الدكتور عبدالرحيم السلمي، وفقه الله، يبدأ حديثه عن (الانفتاح المعرفي) داعيا الحضور لمزيد من التفاعل والنقاش، ومن ثم سار الدكتور السلمي بطريقة موازنة بين الواقع المنغلق فكريا والمنفتح معرفيا ليرسم خطوطا عريضة يمكن تطبيقها بشكل شخصي مختلف عن الآخرين. وفي العموم فموضوع الانفتاح والانغلاق تتم ملامسته ومعالجته على بعدين: مجتمعي وفردي، وكثير من المتحدثين عن موضوع الانفتاح يتناوله بشكل فردي أو جماعي، على اعتبار جماعة ما مكونة من عدة أفراد يتناولهم الحديث بالخصوص، وليس عن المجتمع بعقله الجمعي.

     من الظاهر في مجتمعنا السعودي، بشكل لافت وخاص، ارتفاع الصوت في الدعوة للانغلاق! وأكبر مثال كاشف له في هذه الفترة هو انتقاد حركة الابتعاث الدراسي، حتى أصبح بعض المبتعثين يخشى أن يتغير تصنيفه أو أن تقل درجة موثوقيته إن صرح بأنه طالب مبتعث! بل إن عددا يعكس رؤية منغلقة أصبح يتندر بشيوع توصيفات مثل (باحث- طالب دراسات عليا)، وهي المفردات التي تحمل في جوهرها الانفتاح حيث يفتح الباحثُ المغلقَ ليجد، وليبحث الطالب في الدراسات فينال العليا! بما أن هذه هي حال البعض، ونتيجة لدعاوي الإنغلاق الفكري والمعرفي ظهرت أدبيات مغايرة تتحدث عن الانفتاح، والذي أعتقده أنه كان من الأولى توجيه الحديث عن ذم الإنغلاق لسببين؛ الأول: أن حديث أي شخص عن أهمية "التبييض" واللون الأبيض يوحي بمدى انشغاله بالسواد! أي أن البعد النفسي للحديث عن الانفتاح يُكسِبُ الانغلاق إضافةً لدرجة تأثيره ومساحته في المجتمع؛ وهذا التأثير وإن لم يكن له ما يؤيده على أرض الواقع إلا أنه يحقق اقترابه من مكانة السمة الأصيلة بالدعوة لما يعارضه، فأنت حينئذ حقيقة تنطلق من أن الانغلاق هو القاعدة وأن الانفتاح طارئ ملح! وهذا يقودني للسبب الثاني: هل الانفتاح طارئ على مجتمعنا وثقافتنا؟

     تستند دعاوى الانغلاق على مفردات شرعية تحاول من خلالها إثبات أنها سمة أصيلة للثقافة والمجتمع الإسلامي، كالحديث الذي رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب! والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي) لما رأى مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كتابا أصابه من أهل الكتاب، لكن هذا الحديث يقابله حديث زيد بن ثابت، رضي الله عنه، كما عند البخاري وأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأن يتعلم لغة يهود! فأين هو الخاص في دلالته وأين هو العام؟ الذي أزعمه أن الانفتاح هو السمة الأصيلة للثقافة والمجتمع المسلم، ويدل عليه التراث الإسلامي عبر مر العصور ابتداءا بعصر النبوة على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تسليم، فالحديث المشهور: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) كما عند البخاري وأحمد وأبي داوود، وعند أحمد والدارمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشد أبيات لأمية بن أبي الصلت فقال: (صدق)، وفي الحديث المتفق عليه أن رسول الله ضحك موافقا لما سمع خبر اليهودي: (إن الله يمسك السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، والخلائق على إصبع ، ثم يقول : أنا الملك)، وفي الحديث المتفق عليه أن عائشة نقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خبر اليهوديتين في عذاب القبر فصدقهما، ومثله كثيرٌ كثير في حال المقام الشريف، صلوات ربي وسلامه عليه، من الانفتاح سلوكا وتطبيقا، بل إن المولى جل في علاه قد ذم الإنغلاق وأن من لم يستفد من حواسه فهو كالأنعام (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) الأعراف/ 179، بل من لطيف ما قرأت يوما أن الإيمان بالغيب الذي يجب على المؤمن لا يكون إلا بالإنفتاح على الميتافيزيقيا. وأنا هنا أتحدث عن الإنفتاح كسمة للمجتمع المسلم لم يتخلى عنها في يوم، بل كان الإنفتاح طريقه لسماع الهدى والإيمان به؛ فالإنفتاح سلوك وطريق إلى المعرفة والفكر، أما قبول تلك المعرفة وتبني ذلك الفكر فهذا موضوع آخر.

     كما أشرت في السابق من أن الإنفتاح هو الأصل وأن الإنغلاق هو الطارئ، والدعاوي إلى الإنفتاح لم تكن فقط كردة فعل على دعوة الإنغلاق، بل نتجت كإحدى الصور السلبية لبتر المعرفة عن سياقاتها ونقلها من مجتمعاتها الأصلية إلينا؛ فالإنفتاح هو في أصله فكرة ناشئة في المجتمع الغربي المنغلق أو كما يسميهم بعضهم openness to otherness، فالمجتمع الغربي في عمومه مجتمع منغلق على نفسه من الطراز الأول، وكانت دعوى الإنفتاح موجهة إليه ونابعة عنه، وهي وإن لم تنجح في بداياتها فإنها لن تزال رهينة الفشل في مستقبلها، فالغرب اليوم أشد وثوقا من أن ذاته القائمة تحافظ على نفسها بتعصبها وانغلاقها على ذاتها، وأنه متى ما انفتح على الآخرين فإن مصيره إلى الذوبان، ومن هنا تفهم كيف اكتسحت البوذية الساذجة عقول كثير من الغربيين الذين غامروا بالانفتاح! ومن هنا يتضح لنا أيضا سذاجة الطرح القائل بأن الغرب منفتح على الآخر من خلال صور مستهدفة في ذاتها، كتدريس فلسفة ابن سينا أو فكر ابن خلدون في بعض الجامعات الغربية، وليس سرا أن الفرد الغربي اليوم لا يرى أبعد من أنفه!

     إن الإنفتاح المعرفي، إضافة لكونه سمة لمجتمعنا، هو أداة رئيسة في نشر الحق والدعوة إليه، ومن التسطيح ربط الإنفتاح بالتلقي فقط بلهٍ عن القبول المطلق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أنه قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل؛ عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)، وهل يبلغ هذا الدين مبلغه إلا بالإنفتاح؟!

ودمتم سالمين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق