26 يناير 2012

النظرية السياسية الإسلامية



على هامش اللقاء الثقافي الأول- 1
"يونيو 2011"

النظرية السياسية الإسلامية



     لا تختلف درجة الحرارة المرتفعة في العربية السعودية عن حرارة الاختلاف الفكري داخل ذات الجغرافية، وكنت أظن أن اللقاء الثقافي الأول الذي نظمه مركز الفكر المعاصرفي العاصمة الرياض سيعمل على تلطيف تلك الحرارة؛ إلا أن الحرارتين (الجوية والفكرية) كانت بذات الارتفاع داخل أروقة اللقاء كما هي خارجه! شهادة حق يجب أن أسجلها، والحق أحق أن يتبع، أنني ظننت أن مركز الفكر المعاصر، ممثلا في رئيسه الدكتور ناصر الحنيني، سيدعم طرح رؤية أحادية في اللقاء من منطلق اجتهاده الذي يراه صائبا، وهو مأجور عليه، وأن المحاضرين سيشاغبونه في العموم ،عدا الأستاذ السكران، إلا أن المفاجئة أن الدكتور الحنيني طالب أكثر من مرة بالحوار والنقاش مع المحاضرين والرؤى المطرحة، أحادية الجانب وأحادييه! وأيده في ذلك ودفع إليه الدكتور عبدالرحيم السلمي في ورقته بشأن الانفتاح المعرفي، والتي أنوي الكتابة عنها في المقال القادم إن شاء الله.

     أولى "المحاضرات" كانت للدكتور سعد العتيبي بعنوان (النظرية السياسية الإسلامية)، غير أن المحاضر وفقه الله استغرق ثلث المحاضرة في الحديث عن "تأصيل" المعرفة، حتى أنني بعد مضي نصف ساعة من المحاضرة التفت إلى الجالسين إلى نفس الطاولة وسألتهم: هل غيروا موضوع الورقة؟ فابتسم أحدهم وأجاب: لا، هي النظرية السياسية الإسلامية! والثلث الثاني من المحاضرة أن الإسلام تناول الشأن السياسي!! وثالث الأثلاث عن تراث الفكر السلفي في السياسة الإسلامية!!! لا شك أن الموضوع حساس ومهم وبحاجة كبيرة إلى البحث، والدكتور سعد، بحكم تخصصه في السياسة الشرعية، كان الظن به أنه من أجدر من يتحدث عنه، لكن لعل له عذر ونحن نلومه في عدم الحديث عن النظرية السياسية الإسلامية في محاضرة النظرية السياسية الإسلامية!

     السياسة الإسلامية نظريات وليست نظرية واحدة، وتنوع النظريات السياسية الإسلامية له ارتباط وثيق بآليات المعرفة الإسلامية ومنتجاتها، بل أن الباحث في نشأة الفرق العقدية يجد تداخل كبير بين الفكر السياسي والعقدي إلى درجة أن تساؤلاً يطرح نفسه بشكل جوهري: هل الاختلاف العقدي المبكر نشأ عن فكرة سياسية؟ أم أن النظريات السياسية الإسلامية تولّدت نتيجة لاختلاف الفكر العقدي؟مثاله علاقة الاعتزال العقدي بالحالة السياسية السابقة والمعايشة لظهوره ولآثاره اللاحقة سياسيا. ولو تناولنا نشأة الخوارج، كمثال ثان، من منظور سياسي لوجدنا أن هذه الفرقة العقدية، وما تفرع عنها، حورت عقيدتها لتتوافق مع رفضها للحل السياسي في "التحكيم" الذي دعا إليه معاوية وقبله علي، رضي الله عن الجميع! ولا يمكننا القول أن رفض الخوارج للتحكيم كان بسبب العقيدة وذلك لأن من أهل السنة، كما يروى عن الحسن البصري في الكامل للمبرد، من رفض تحكيم علي على أساس سياسي لا عقدي. وهذه علاقة دقيقة قد لا يتفطن لها بعض الفضلاء فيرفض خلط السياسة بالعقيدة، في حين أن آخرين يستخدمون العقيدة فقط في تحليل السياسة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميمُ، والصحيح أن مساري السياسة والعقيدة في الشأن السياسي متلازمان كفرسي رهان. ولدقيق هذا الاختصاص، أعني نظريات السياسة الإسلامية، وندرة أصحابه كما أشار الدكتور سعد حدث خلط كبير في الحديث عنه، بل أن أحد المداخلين أشار بتناول موضوع السياسة الإسلامية على أساس تقسيم فقهي محض! وصدق الحالُ المقالَ (عش رجباً ترى عجباً)؛ أفلا يعلم صاحبنا أن الفقهاء وإن اتفقوا في المذهب الفقهي فإنهم يختلفون في العقيدة، وإن اتفقوا في العقيدة فإنهم يختلفون في المذاهب الفقهية؟! لذلك ترى تباينا في أقوال الفقهاء داخل المذهب الواحد في بعض المسائل السياسية التي تناولوها بشكل فقهي نتيجة لاختلافهم العقدي! ومبحث الفقه السياسي في كتب الفقه من أميز ما يتم التعرف به على معتقد الفقيه.

     التراث الإسلامي، في غالبه، تناول السياسة من الناحية العلمية بشكل متأخر عن بقية العلوم الأخرى، وفي ظني أن هذا التأخر نشأ كسبب رئيس للفترة الزمنية التي احتاجتها السياسة كعلم للانتقال من الثقافتين الفارسية واللاتينية إلى العربية الإسلامية، لذا تجد أن كتابة المتأخرين من الفقهاء في السياسة أنضج وأعمق من المتقدمين على خلاف العلوم الإسلامية الأخرى! وملحوظة أخرى بشأن التراث الإسلامي المتعلق بالسياسة أن غالبه وإن كان يتناول السياسة إلا أنه يندرج تحت حقول معرفية أخرى مثل العقيدة والفقه والإدارة؛ فأنت تجد أن العقائديين يطرحون موضوع الإمامة السياسي من ناحية عقدية تعنى بتشكيل الذات وقولبة الآخر. أما الفقه الإسلامي فالأمثلة فيه أغزر؛ فالفقهاء كان تصويرهم للسياسة متعلقاً بتنزيل الأحكام التكليفية على تطبيقاتها. وقد يفاجئ البعض أن الماوردي، رحمه الله، كان تراثه في المجمل متعلق بالإدارة السياسية أكثر من كونه متعلق بذات السياسة ونظرياتها. السياسة كعلم ذات ارتباط وثيق بالواقع ولا يمكن التحدث عنها بشكل منفصل عنه، سواءا لتأصيله أو نقضه، وهذا لا إشكال فيه؛ فكل العلوم لها ارتباطها بالواقع بشكل أو بآخر، إلا أن المشكل في ارتباط السياسة كعلم بالواقع هو مدى وقوعها تحت تأثيره أو تحررها منه! ومثالا على ذلك تجد أن بعض الفقهاء تناول موضوعا سياسيا كمعارضة الحاكم تحت تأثير الواقع فحاول تنزيل هذا الواقع على النص لا العكس؛ فتجد أن إماما كإبن قدامة المقدسي رحمه الله يستدل على أن معارضة الحاكم هي بغيٌ يقاتلون عليه بقوله تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) الحجرات/ 9، في حين أن شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، يقرر أن هذه الآية خارج محل النزاع ولا علاقة لها بمعارضة الحاكم أو الخروج عليه من قريب ولا بعيد! وهذا التأثر بالواقع انتقل عبر التاريخ في معالجة المواضيع السياسية إلى العصر الحاضر.

     غالب أبحاث السياسة الإسلامية المعاصرة متشابهة في تأثرها بالواقع في منطلقاتها، وكذلك في تناولها للموضوعات؛ فالشورى كحلم يراود الإسلاميين في منامهم ويقظتهم ناتج عن الديكتاتورية والأثرة في الحكم في الواقع المرير وليس نتاجا للنصوص الجمة التي يزعمونها أو الممارسات الطويلة التي يتغنون بها بناء على بعض الصور التاريخية التي ينقلونها بشكل مجتزأ! وقد يتفهّم أحدنا الاتهام الذي يُرمى به الإسلاميون بأن الشورى التي يطالبون بها هي شعار أكثر من كونها حقيقة يعتقدونها إذا ما نظرنا إلى واقعهم الصادم والديكتاتوري في ممارساتهم التنظيمية! فكم هي نسبة المؤسسات الإسلامية التي تمارس الشورى وتلتزم بها داخل بنيتها الإدارية؟ وما هي المؤسسات الإسلامية التي تستعمل "الانتخاب" كأداة حديثة من أدوات الشورى في هرميتها وقراراتها؟! لا شك أن الواقع صادم ومؤثر في مفرزاته العلمية والعملية ومنها السياسة الإسلامية! ومن ركائز النظرية السياسية الإسلامية في القديم والحديث مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، بل إن ابن تيمية رحمه الله يجعل مدار السياسة الإسلامية على هذا المبدأ، لكن يجب أن نفرق بين هذا المبدأ بمفهومه العام عند ابن تيمية وبين الواقع السياسي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند بعض الإسلاميين المعاصريين، والذي أشبه ما يكون اليوم بقول عبدالله بن سبأ البارحة يوم قال: (أكثروا الطعن في أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)!

     إن النظرية السياسية الإسلامية اليوم بحاجة إلى عميق بحث ودقيق تمحيص وحيادية في الاستنتاج والتحليل، وتناول يشمل الايديولجيا والسيسولوجيا ويفكك البنية المؤسساتية لها ويكشف شرعيتها ومشروعيتها على ضوء النصوص مجتمعة، موازنا بين الديني والدنيوي، والأصلي والمصلحي، والثابت والمرحلي.

ودمتم سالمين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق